في السابع والعشرين من تشرين الأول أكتوبر 1986 اتخذ الملك فهد بن عبدالعزيز قراراً بالتخلي عن لقب الجلالة واعتماد"خادم الحرمين الشريفين". ويوم ذاك كتب أحد الصحافيين الأميركيين إلى صحيفته مقالاً تحليلياً من الرياض وتوقف عند العبارة الآتية:"لقد تخلى الملك فهد بن عبدالعزيز عن لقب"صاحب الجلالة"وهذا الأمر يدعو إلى الاستغراب يبلغ حد الدهشة". لكن الصحافي الأميركي توقف عند لقب خادم الحرمين الشريفين ولم يجد له ترجمة دقيقة على الفور. ويوم الاثنين في الثاني من آب أغسطس 2005 غيّب الموت الملك فهد منتقلاً إلى جوار ربه وبويع الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الملك السادس على المملكة العربية السعودية، واختار الاحتفاظ بلقب خادم الحرمين الشريفين. لذا يصح القول: مات الخادم فهد... وعاش الخادم عبدالله. وبرحيل الملك فهد تنطوي حقبة تاريخية مميزة ومهمة حفلت بالبناء والإعمار والإنجازات التي لا يمكن أن تحصى تاركاً فيها وعليها بصمات دامغة وواضحة في رحلة باني النهضة الحديثة للمملكة التي استطاع خلال ثلاثة وعشرين عاماً أن يطورها وأن ينقلها إلى مرحلة متقدمة جداً جامعاً بين الحداثة والعصرنة من جهة والاحتفاظ بالتراث التليد. واختيار الفهد ومن بعده عبدالله التمسك بلقب خادم الحرمين يعني أن الحاكم هو خادم الشعب وراعي شؤونه على طريقة كبير القوم خادمهم. وعندما كانت مراسم الوداع الأخير للراحل الكبير في طور الإعداد والتحضير خصوصاً مع وجود الحشد الهائل، كانت أسئلة الذين تابعوا التغطية التلفزيونية تنهال على المراسلين المقيمين في المملكة للاطلاع على المزيد من التفاصيل، فإذا بالدهشة تفاجئ كثيرين منهم عندما اتضح لهم أن تشييع الملك الراحل إلى مثواه الأخير غاية في البساطة وفي التواضع، وأن من يخطر في باله تفقد المكان الذي دفن فيه الملك فهد في مقبرة العود سيزداد دهشة حين يعلم أن الملك المؤسس وموحد الجزيرة يرقد أيضاً في تلك المقبرة مع الراحلين الذين تعاقبوا على الحكم في المملكة. ولعله كان في أذهان العديد من الناس أن الكاميرات التلفزيونية ستظهر لهم ضريحاً من أنواع الرخام المختلفة، وانتهت مراسم الوداع الأخير بما لا يزيد على ربع ساعة. هنا أيضاً يصح القول: إن القبور الفخمة هي للعاديين من الناس فيما التواضع والبساطة هي صفات وملامح الرجال العظماء والتاريخيين والاستثنائيين منهم. وفي العام 1975 عندما استشهد الملك فيصل بن عبدالعزيز، شاركت في مأتم التشييع إلى مثواه الأخير وكان غاية في التواضع والبساطة والحزن العميق الذي كان يبلغ الذروة في التعبير عن فاجعة الموت حد الصمت المطبق، ومع وجود الحشود الرسمية والشعبية من كل أقطار المعمورة تمشي سيراً على الأقدام فكنت"إذا رميت الإبرة تسمع رنتها"! ووفق المادة السادسة من نظام الحكم في المملكة جرت مبايعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز والأمير سلطان بن عبدالعزيز ولياً للعهد. وجرت هذه البيعة"على كتاب الله تعالى وسنة رسوله وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره". وهكذا تبدو مشهدية المبايعة التي فيها صدق الولاء والعلاقة الفريدة والمميزة التي ربطت أبناء المملكة من حَضَر وبدو بالملوك الذين تعاقبوا على السلطة من أبناء المؤسس عبدالعزيز. وخلال المبايعة الشعبية التي تمت الأربعاء والخميس ألقى الملك عبدالله كلمة موجزة لكنها معبرة عن طبيعة المشاركة الشعبية بين المليك وعامة الناس. فقد خاطبهم الملك الجديد وهو السادس منذ الملك المؤسس قائلاً:"... أعاهدكم أن يكون شغلي الشاغل إحقاق الحق وإرساء العدل وخدمة المواطنين كافة بلا تفرقة... وأرجو ألا تبخلوا علي بالنصح والدعاء". وهذا هو تواضع الالتزام بخدمة جميع الناس من دون استثناء. كذلك وجه ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز كلمة رداً على البيعة الشعبية، ومما قاله:"كان فهد بن عبدالعزيز أباً للصغير وأخاً للكبير وحّد القلوب فتوحدت القلوب في حبه، وعزاؤنا أنه عوضنا خيراً بخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله الذي كان عضداً أميناً للراحل الكبير، وأن المملكة في عهده ستتابع مسيرة النماء والعطاء". كان الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز ذلك الصوت العربي المسموع في الأوقات الحرجة والصعبة خاصة في وقت يشهد العالم العربي حالة من الضياع والتشرذم والتشتت ونكاد نقول أيضاً... التفتت. وسؤال المرحلة في المملكة العربية السعودية الآن يتركز على معرفة نهج القيادة الجديدة - القديمة، وكيفية تعاطيها مع التحديات التي تواجهها على غير صعيد. وفي التصور العام ستكون الاستمرارية الممزوجة بالتطوير سمة المرحلة الآتية. فهنالك ملف الإصلاحات الداخلية، وهو احدى القضايا الملحة التي تصدى لها الملك عبدالله وهو يملك إرادة صلبة للمواظبة على هذا النهج. علماً بأن أي توجه إصلاحي هو مسار صعب وطويل، وسيأخذ أشكالاً متعددة في غير مجال وفي غير أسلوب. وفي هذا الإطار قالت صحيفة"التايمز"البريطانية الجادة"بأن الملك عبدالله كان أول شخصية سعودية بارزة تتحدث عن الإصلاح والديموقراطية، كما أنه كان صاحب مبادرة إجراء انتخابات بلدية"في المملكة في الآونة الأخيرة. وتشير"التايمز"في معرض تحليلها لحاضر ومستقبل المملكة"أن الرياض بحاجة إلى حلفاء في حربها ضد الإرهاب، وفي هذا الإطار يحتاج الملك عبدالله إلى تغيير الاستراتيجيات المحلية". وفي أفضل سيناريو محتمل سيتحول الملك الجديد من الاعتماد في حكمه على السلطات الدينية والقبلية إلى الاعتماد على الطبقة الوسطى المتنامية بما يعني اختيار طريق الإصلاح. وتندرج في السياق نفسه الإرادة الصلبة المتمثلة بالملك عبدالله وولي عهده الأمير سلطان مواصلة الحرب بلا هوادة على الإرهاب. ورغم أن قوات الأمن السعودية حققت الكثير في هذا المجال من حيث تعقب الشبكات الإرهابية لكن دقة الوضع تستدعي مواصلة التصفيات والاعتقالات. ويجب أن يشار هنا إلى النهج الوسطي في العقيدة الإسلامية والتي آمن بها ويركز عليها الملك عبدالله والأمير سلطان وتعقب هذه العناصر الخارجة عن كل دين ودنيا والتي تعمد إلى قتل المواطنين السعوديين، فباسم أي قضية"يناضل"هؤلاء؟ أو يتاجرون؟ وفي سياق أجندة القيادة السعودية الجديدة: ملف العلاقات الخليجية والإقليمية والدولية، وهي تبدو كلها مترابطة ومتشابكة. يضاف إلى ذلك متابعة تصويب العلاقات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية. وتؤكد معلومات نقلتها مصادر واكبت محادثات الرئيس جورج دبليو بوش و"الأمير"عبدالله في حينه كانت على درجة كبيرة وعالية من الأهمية. وأكدت التجارب أنه من صالح كل طرف الحفاظ على علاقات مميزة وسط انفراد أميركا هذه القوة الأحادية بالسيطرة على سياسات العالم شرقاً وغرباً. وتندرج في هذا الإطار أيضاً المحافظة على نوع من التوازن بالنسبة الى سعر برميل النفط. وتنتج المملكة حالياً تسعة ملايين ونصف مليون برميل يومياً وبإمكانها في حالات قصوى تفرض نفسها على أسواق النفط العالمية أن ترفع هذا الإنتاج إلى أحد عشر مليون برميل يومياً. وكانت لدى الملك الراحل رؤيا معينة حيال هذا الأمر تتلخص في أن المملكة تعتبر نفسها مسؤولة عن تأمين التوازن في الأسواق العالمية وهي تريد أن تجني المزيد من الموارد من النفط ومشتقاته لكن من دون إثارة البلبلة والفوضى في الأسواق العالمية. وها هي أسعار البترول ترتفع تدريجياً في حدود الستين دولاراً ويزيد ويرى مراقبون وخبراء في هذا المجال أن هذا السعر قد يرتفع وفي وقت ليس ببعيد إلى حد 70 دولاراً للبرميل. ومعلوم أن الملك عبدالله خصص خلال السنوات الأخيرة قسماً كبيراً من عائدات النفط والزيادة التي طرأت عليها لتحسين الأوضاع المعيشية والحياتية لفريق من الناس يحتاج إلى مثل هذه الرعاية من قبل الدولة. وأسهمت الزيادة في عائدات النفط بالأسعار المرتفعة إلى تخفيض كبير في العجز الذي لحق بالميزانية العامة منذ حرب الخليج إلى فترة قريبة خلت وهذا الأمر مكّن الرياض من الاستمرار في تقديم المساعدات لعدد كبير من دول العالم سواء بشكل هبات أو قروض بشروط ميسرة وعبر صناديق متخصصة قائمة بالمملكة. وفي سبيل وضع الأمور في نصابها الصحيح يجب القول ان فترة حكم الراحل الكبير فهد بن عبدالعزيز لم تقتصر فقط على فترة زمنية تمتد إلى ثلاثة وعشرين عاماً، لأنه كانت له ممارسات طليعية وريادية عدة قبل تولي العرش، وهذه الصورة تنطبق على واقع الملك عبدالله باعتبار أن دوره لم يبدأ إلا الاثنين الفائت فحسب لأنه مارس العديد من المسؤوليات والأدوار واتخذ العديد من المبادرات. وكذلك تنطبق الحال على واقع ولي العهد الأمير سلطان والذي بدأ رحلة الحكم منذ منتصف القرن الماضي مع تعيينه أميراً على منطقة الرياض ثم توليه وزارة الزراعة وصولاً إلى الدفاع حيث يعتبر عميد وزراء الدفاع تمرساً وخبرة بالإضافة إلى تراث عريق من العمل السياسي. أما خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز فإن الإنجازات التي قام بها وأشرف عليها أكثر بكثير من أن تحصى أو تعد، فكان مبادراً حيث يجب اتخاذ المبادرات، وكان متروياً حيث تجب الحكمة، وكان هادئاً ومتماسكاً إلى أقصى الحدود في فترة اشتداد الأزمات من أي نوع في المنطقة حيث استدعى الوضع اتخاذ القرارات السريعة لكن غير المتسرعة. كان يشاور الأشقاء والحكماء عندما كانت الضرورات تحتم الإقدام على المواجهة التي تطلبت حسماً وعزماً. كان يستمع ويصغي بانتباه شديد وفي نهاية الأمر يغلب القناعة والحكمة والصالح العام على أي اعتبار آخر. وفي سياق مجال استعراض بعض الاضاءات الخاطفة على سيرة الراحل الملك فهد من دون الإشارة إلى دوره المحوري والمهم في إنقاذ لبنان من آتون الحرب الأهلية عندما جمع نواب الأمة اللبنانية في الطائف وهم الذين لم تمكنهم سلسلة الحروب من الاتفاق على مكان أو زمان الالتقاء. فقد تفرغ الملك فهد من مسؤوليات المملكة كلياً ليواكب مداولات النواب وكما كانت النقاشات تؤخر بلوغ مرحلة ما من التفاهم كان يصّر على ضرورة التوصل إلى اتفاق لوقف النزيف اللبناني الكبير. ومنذ تلك الفترة اشتهر شعار"الفشل ممنوع"، وأن النواب لن يغادروا الطائف قبل التوصل إلى اتفاق. وعلى هامش مداولات اجتماعات الطائف وصولاً إلى الاتفاق الذي حمل اسمها نسوق الرواية التالية، نقلاً عن الشيخ محمد السليمان السكرتير الخاص للملك فهد لفترة طويلة. في مأدبة احتفالية دعا إليها في نهاية اجتماعات الطائف التي تواصلت على مدى 24 يوماً كان الرئيس حسين الحسيني يقدم النواب إلى الملك فهد معرفاً عن كل واحد منهم باسمه. وعندما كان"النائب"الياس الهراوي في حينه يصافح خادم الحرمين عرف عنه باسم آخر، لكنه لم يدع الأمر يمر بسهولة فعاد إلى الملك مصححاً الخطأ الذي وقع وموضحاً له الاسم الحقيقي فأبدى رحمه الله استغرابه من هذا التعريف الخاطئ قائلاً له : أنا أعرفك. واحتاج الأمر إلى دقائق قليلة كانت فيها عيون النواب مشدودة إلى الحديث الهامس بين الملك فهد والهراوي. وانطلقت منذ تلك اللحظة الشائعات والتساؤلات حول ما جرى حتى بلغ الأمر ببعض النواب إلى القول بأن النائب الهراوي تلقى كلمة السر وأنه سيكون الرئيس الجديد للجمهورية ما بعد الطائف. رحم الله الملك فهد بن عبدالعزيز الذي غادرنا إلى دنيا الحق مع تاريخ حافل بالإنجازات والمواقف والمبادرات والتي ستذكر له على الدوام. وإذ غيّب الموت خادم الحرمين الملك فهد، فإن خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يتولى قيادة السفينة نحو بر الأمن والأمان والاستقرار والنماء، وإلى جانبه مساعد الربان ولي العهد الأمين الأمير سلطان بن عبدالعزيز. كاتب لبناني.