ما بين العام 1978 الذي صدر فيه ديوان الشاعر هاشم شفيق الأول"قصائد أليفة"والعام 2003 الذي نشر فيه ديوانه الكبير الأخير"مئة قصيدة وقصيدة"يكون قد مر عليه ربع قرن من الزمان، وهو في الحقيقة ربع قرن من كتابة الشعر الذي ظل يتدفق بلا انقطاع، هادئاً ورقراقاً مثل نهر باعث على الطمأنينة، لا تملك الا ان تقف على ضفته الممتدة بعيداً الى الاقاصي وتتأمل سحره الآسر للقلب قبل العقل. ربع قرن من زمن استثنائي ضربته عواصف مدمرة حولت الحياة ذاتها الى حطام، مثلما جعلتنا نكبر حتى على التاريخ نفسه. فمن حسن حظ هاشم شفيق، ولكن ربما أيضاً من سوء حظه، انه بدأ حياته الشعرية في زمن أسوأ غروب شمس عراقي وعربي، لا يملك فيه الشاعر الحقيقي خياراً آخر سوى أن يتلمس خطواته في الظلام ليتجنب الفخاخ الكثيرة المنصوبة له على قارعة الطريق: فخاخ سياسية وفكرية وشعرية وأخلاقية. فإذا كانت نهاية الحرب العالمية الثانية سجلت انتصار البشرية على البربرية الفاشية، واذا كانت الستينات أوحت بعالم آخر يقوم على حرية العقل والجسد والمخيلة، فإن ما عاشه العراقيون في السبعينات وكل الفترة التالية لها تجاوز في ضراوته كل كارثة أخرى مرت بتاريخهم. زلزال لم ينج منه التاريخ العربي نفسه. لم تحرق الديكتاتورية بحروبها ومشانقها وقبورها الجماعية الوطن وحده وانما أيضاً، وربما قبل أي شيء آخر، الثقافة والشعر. في النصف الثاني من السبعينات، ولم يكن هاشم شفيق حينذاك قد نشر بعد سوى بعض القصائد هنا وهناك، كان سعر قصيدة مديح الديكتاتور التي يكتبها الشعراء الناشئون في العراق بلغ ألف دينار 3200 دولار حينذاك، وهو مبلغ كان يعادل راتب موظف متقدم في الخدمة لمدة عامين على الأقل. فخ سقط فيه الكثير من الشعراء الناشئين وغير الناشئين. في الطائرة التي غادرت فيها العراق في رحلة منفاي الطويلة في العام 1977 التقيت شاعراً شاباً من جيل هاشم شفيق نفسه، كنت أكن له المودة، فضل الجلوس على المقعد جنبي، قال لي انه متوجه الى بولندا، كما أذكر، لقضاء شهر عطلة هناك، ثم اضاف باستحياء:"انني خجل في الحقيقة من مصارحتك بالأمر. لقد فعلتها أنا الآخر". ولما سألته عما فعل قال:"حصلت على ألف دينار لقاء قصيدة مديح لصدام حسين". في مثل ذاك المناخ المسموم الذي يميز بين الشعراء، على أساس قربهم من السلطة أو ابتعادهم عنها، مديحهم الكاذب لها أو مغامرتهم بالنيل منها، بدأ هاشم شفيق خطواته الأولى في مسيرته الشعرية الطويلة التي جعلته يقف منذ تلك البداية الأولى في الضفة الأخرى الى جانب كل الشعراء الحقيقيين الأكبر منه سناً، كصوت مدافع عن الحرية، وهو خيار لم يكن سهلاً في مثل تلك الأيام على شاعر شاب مثله. وحينما بلغ القمع أوجه في العامين 1979 و1980 كان هاشم شفيق واحداً من عشرات الشعراء والأدباء الذين أعلنوا القطيعة مع النظام واختاروا المنفى، ليشكلوا بذلك معارضة ثقافية لم يكن التاريخ العربي كله قد شهد مثيلاً لها من قبل. ومع ذلك لم يكن هاشم شفيق في اختياره هذا سياسياً بقدر ما كان شاعراً، كل ما كتبه حتى الآن يؤكد لنا انه لا يرى العالم الا من خلال الشعر، فهو شاعر ليس في الشعر فحسب وانما في الحياة أيضاً. قصائده تكاد تكون دائماً غناء من القلب لكل ما تراه عيناه، غناء يمجد كل الأشياء الصغيرة والعابرة التي يمر بها. فهو يمتلك في شعره ما يكفي من البراءة التي تجعله ينبهر لمنظر شجرة في الريح أو صخرة على جبل. هذه هي كل قصيدته التي تحمل عنوان"جبال صلاح الدين". انها قصيدة قد تبدو بسيطة، وهي كذلك حقاً، وقد يبدو بيتها الأول عادياً، ومع ذلك عرف الشاعر كيف يفجر شعريتها. في البيت الثاني، دمج الشاعر النظر باللمس، موحياً لنا بعلو الجبال التي لا يمكن الوصول اليها الا بالعين. لكن العين هنا لا ترى فحسب، وانما تمس الأشياء أيضاً. وفي البيتين الثالث والرابع نرى الجبال تتحول الى ما يشبه الكتاب الذي يتصفحه سفحاً... سفحاً. وكأنه يريد أن يحيلنا الى تاريخها المضمر وجغرافيتها السرية والى شاعر يقلّب كتاب الطبيعة. هاشم شفيق شاعر أليف حقاً، ويبدو أنه أدرك ذلك منذ البداية حينما عنون ديوانه الأول الذي صدر في بغداد في العام 1978 بعنوان"قصائد أليفة". والألفة هنا توحي بكل ما يكون قريباً من القلب. في كل قصيدة من قصائده ثمة لمسة رومانسة تعبر عن روح تائقة الى الايقاع وسط ضجيج العالم وصخبه والى طفولة الأشياء في أزمنة الشيخوخة، والى الرغبة في أن ينير الليل. ليل الآخرين ولكن ليله هو أيضاً وأن يغسل الظلام مثلما غسل قبل ذلك الحجارة والثلج والرمال والحصى والرياح، كما يقول في قصيدة جميلة له بعنوان"الجبل"ضمن مجموعته المتميزة"مئة قصيدة وقصيدة". وهو اذ يفعل ذلك يهمه أن يفتح الطريق أمام آخرين سواه"كي يمروا ضحى في نهار الجبل". هاشم شفيق واحد من أكثر الشعراء غزارة في انتاجه الشعري، فقد نشر حتى الآن 12 ديواناً، وهو يكاد ينافس بذلك سعدي يوسف الذي قال ذات مرة ان حجم انتاجه الشعري قد تجاوز حجم ديوان أبي تمام. أما هاشم شفيق فيقول ان شعره المخطوط الذي يحتفظ به قد لا يقل عن شعره المنشور. هذه الغزارة الشعرية سواء عند هاشم شفيق أو سعدي يوسف ترتبط في الحقيقة بمنظورهما المتقارب الى الشعرية التي تتقد من العلاقة بين العين والموجودات، حيث يصف الشاعر كل ما يلتقيه في طريقه، كل شيء هو موضوع للشعر. وفي شعر هاشم شفيق تؤدي الطبيعة بالذات دور المسرح الذي يتحرك الشاعر عليه بكل حريته. عناوين دواوينه نفسها تعكس مديحه المتواصل هذا للطبيعة:"أقمار منزلية، شموس مختلفة، بيت تحت السحاب، مشاهد صامتة. ورد الحناء". لكن هذه الطبيعة ليست طبيعة ميتة أو جامدة وانما هي موجودة دائماً في علاقته بها، يدخل فيها تارة ويمسكها من يدها تارة أخرى. فنشعر انه هو نفسه قد صار جزءاً منها. هذه العلاقة بالطبيعة تكاد تشمل كل قصيدة يكتبها هاشم شفيق، اذ منها يستمد مادته التي يبني بها قصيدته القائمة على الوصف أساساً، وهو دائماً وصف يتجنب الوقوع في فخ الفوتوغرافية الباردة، وصف يؤنسن الوجود ويجعله كائناً حياً أمامنا، مثلما فعل الشعراء الرومانسيون الانكليز والألمان ذات مرة، مضيفاً عليه غالباً لمسة سوريالية تحيله شعرا. وفي قصيدة"نصب في المدينة"يرى نفسه وقد صار نصباً، يتسلقه السياح، فيما النصب يبتسم للعابرين. شعر هاشم شفيق يرتبط بحياته الخاصة التي عاشها أكثر مما يرتبط بقضايا عصره الكبرى، شهادته دائماً هي شهادة العابر في العالم، المندهش أمام الوجود، الباحث عن الجمال في الأشياء الصغيرة التي يصادفها في طريقه وعن التآلف، وهو أمر يجعل قصائده تخلو من التوتر والدرامية والتأزم، تلك العناصر التي نلتقيها في قصائد شاعر مثل بدر شاكر السياب، مثلما تخلو من"التبشيرية"التي تلتصق بقصائد عبدالوهاب البياتي، ومن الكآبة العاطفية التي تقوم عليها قصائد نازك الملائكة. قصائده تغتني بالاندماج بالأشياء وتقصد الخاص قبل العام، حتى عندما يتحدث عن الآخرين، ضمن علاقة قد تتخذ شكل سؤال ما أو"فكرة سافرة، حرة تتجول في الريح"أو"ضوء خاص"يجتذبه ليغادر ذاته. على رغم أن هاشم شفيق جرب كتابة القصيدة الطويلة أيضاً ومنها قصيدته النثرية"صباح الخير بريطانيا"، الا انه يظل شاعر القصيدة - اللقطة، المكثفة والقصيرة التي تبنى على مرتكز للقول، يبدأ عادة بمقطع يقدم المشهد وآخر ينفتح فيه معنى القصيدة أمامنا، من خلال فعل أو سؤال أو تقنية تتعمد التكرار أو استدراك كثيراً ما يعبر عنه بپ"لكن"، عاكساً جدل الشاعر مع العالم الذي يجد نفسه فيه أو وضعه المستثنى كشاعر يختلف في رؤياه عن الآخرين. قصيدة اللقطة أو اللوحة التي يكتبها هاشم شفيق تقربه من الرسم أيضاً، بسبب طابعها الوصفي الذي يجعل كل ما تقع عليه عيناه مرئياً: عناصر الطبيعة وأشياء الحياة اليومية، وهي عناصر لا تكاد تخلو منها أي قصيدة من قصائده:"المساء هنا/ مثقل بالستائر،/ مؤتزر بقماش ثقيل،/ بدا كرقائق من حجر،/ أسدلت بأناة على النافذة". في مثل هذه القصيدة يكتفي الشاعر بالايحاء الذي ينقله لنا المشهد، تاركاً لنا نحن القراء التأمل في ما وراء ذلك، لاستخراج معناه، وهو معنى قد لا يهم الشاعر خارج حدود شعرية المشهد ذاته، مقتاتاً على براءة نظرته وفطرية عواطفه المغسولة بماء نهر الحياة، تلك العواطف التي تقوده أحياناً الى استخدام المفردات والتعابير الشعبية المحببة التي يلتقطها من أفواه الناس العاديين:"تمجد يا بعيد/ يا مدلل/ يا جميل/ لم يعد لنا يا حلو/ يا رهيف/ جادة في السماء". نشعر مع هاشم شفيق منذ ديوانه الأول"قصائد أليفة"وحتى آخر قصيدة كتبها أننا أمام نشيد متصل واحد. كل قصيدة هي في شكل ما مقطع من قصيدة طويلة لم تنته بعد، قصيدة عن مسافر يتنقل من مكان الى آخر في رحلة دائمة، فعلى رغم تعدد مواضيعه المفتوحة على كل شيء في العالم ولجوئه الى تنويع أشكاله وايقاعات قصائده يظل دائماً هو نفسه، وتظل القصيدة هي ذاتها، بطريقة لا تخطئها العين، ممتلكاً لغته الخاصة به وصياغاته التي يعود اليها المرة بعد الأخرى وغنائيته التي تمنح شعره المزيد من الحميمية والدفق. وهو في كل ذلك شاعر يتجه الى الداخل عبر طريق الخارج نفسه، فيما تشكل صيغة أنا الشاعر عنصراً مكملاً للوحة التي يرسمها، تلك اللوحة التي يتأملها تارة ويندمج بها تارة أخرى. هاشم شفيق واحد من شعراء قليلين في جيله ما زال يكتب شعراً موزوناً، مثلما يكتب قصيدة النثر أحياناً، منتمياً بذلك الى القصيدة التي تكرست ايقاعياً على يد الجيل الذي أعقب جيل الرواد والتي تفجرت بصورة خاصة في الستينات. لكنه يظل في كل ذلك يحمل طابعه الخاص به، مثلما يظل، كأهم وأبرز شاعر في جيله، وفياً لتجربته الخاصة به في خضم الشعر العراقي الهائل الزاخر بالتجارب. صدور"الأعمال الشعرية"لهاشم شفيق عن المؤسسة العربية 2005 مناسبة تفرض علينا ألا نكتفي بمجرد الاحتفاء بالشاعر المبدع وعمله الشعري الثري، وانما أن نتبنى هذا العمل ونعتبره ملكاً خاصاً بنا، كما تنبأ بذلك الشاعر نفسه في احدى قصائده:"سروة لي وحدي/ هي الآن،/ لكنها سوف تغدو غداً/ منظراً للجميع". شاعر عراقي مقيم في ألمانيا.