أدخلوا الى زنزانته جهاز تلفزيون صبيحة إقرار المجلس النيابي اللبناني قانون العفو عنه، بعد إحدى عشرة سنة أسراً وبضعة اشهر. وهو حتماً شاهد وقائع الاحتفال بهذا"الحدث"الذي طال انتظاره، جالساً امام الشاشة الصغيرة، متابعاً تفاصيل التفاصيل من خلال عينيه اللتين اشتاقتا بشدة الى الخارج، الى الوطن الذي كان سجيناً بدوره، الى الهواء النقي والشمس الصافية... الى الحرية في معناها العام والشائع وليس في معناها الروحي او الداخلي. كيف يمكن تصوّر سمير جعجع، احد السجناء السياسيين النادرين في لبنان، في ذلك النهار، صبيحة اعلان العفو عنه، وغداة اعلانه؟ طبعاً كانت فرحته مزدوجة: اولاً لأنه احس ان السجن اصبح وراءه وأن حريته تأكدت قانونياً وبات الآن قادراً ان ينظر الى السجّان كشخص حر وليس كسجين... ثم لأنه يملك الآن جهاز تلفزيون لا يقتصر"حضوره"فقط على كسر عزلته الداخلية وفتح نافذة له يطل من خلالها على العالم وإنّما استطاع جعجع عبر شاشته أن يشارك في الاحتفالات التي عمت مناطق لبنانية عدة، ساحلاً وجبلاً وأن يكون"حاضراً"لا بالمخيلة والروح في تلك الاحتفالات بل بپ"الحقيقة"ولو كانت صورية او تلفزيونية. ومثلما شاهده الجمهور في اطلالات سابقة له، ايام كان في عز سلطته"الميليشيوية"، شاهد هو نفسه ايضاً واستعاد صورة له، يبدو فيها مختلفاً عن صورته التي يراها في المرآة داخل السجن. حتماً أثرت تلك المشاهد التي بثتها المحطات ولا سيما محطة"ال بي سي"، كثيراً في قائد القوات اللبنانية"المنحلّة"وأعادت إليه ذكريات لم تمح في ذاكرته. شاهد سمير جعجع السجين والضحية سمير جعجع الزعيم والقائد - ولو في ايامه الأخيرة -، شاهد نفسه هو المغرق في صمت الزنزانة، شخصاً يتكلم بطلاقة ومنطق خاص، يحلل ويعرض وجهة نظره في ما كان يجري آنذاك، وشاهد كذلك امه وأباه وزوجته في اطلالة سياسية لم يألفها من قبل، وشاهد رفاقه يحتفلون ويطلقون الهتافات باسمه... وشاهد ايضاً صوره - وهنا القضية - تحتل السيارات والجدران وترتفع عبر ايدي الشبان والشابات... انها صور المرحلة"المجيدة"، مرحلة ما قبل السجن الذي سيق إليه ظلماً في ظل دولة يعرف الجميع انها لم تكن تملك قرارها السياسي الحر حينذاك. كان ينبغي ان يدخل جهاز التلفزيون زنزانة سمير جعجع قبل سنوات كي يشق ظلمة هذه الزنزانة - كما يحصل دوماً في السجون السياسية - وكي يفتح في جدارها نافذة يطل منها على الحياة في الخارج وعلى العالم الذي هجره ليعيش وراء القضبان. ولا احد يدري كيف يُمنع التلفزيون من دخول زنزانات السياسيين وكأن غاية السجان ان يقضي على ذاكرة سجينه ويعزله عن الزمن والواقع... والحياة. سمير جعجع الآن ليس كما في الصورة التي شاهدها على الشاشة الصغيرة. فالسجن هو اشبه بالجدار القائم بين زمنين ومرحلتين وواقعين، والصورة التي بثها التلفزيون هي الصورة الحقيقية، وهي ربما الصورة الأصل، فيما صورة جعجع السجين هي الصورة الطارئة التي لم يصنعها جعجع بنفسه بل صنعها له سجّانه.