افتتحت مجلة "التسامح" التي تصدرها وزارة الأوقاف في عمان عامها الثالث بملف تصدرته الآية القرآنية: واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة، وعنوانه الفرعي: الحرية والمسؤولية والمواجهة الجماعية للمشكلات. في محور العدد كتب الأستاذ عبداللطيف الهرماسي عن الديني والسياسي في المجال الاسلامي الوسيط، فقرأ قضايا التواصل والافتراق قراءةً دقيقة بين النصوص والسياقات التاريخية، وانتهى الى الاستنتاج ان"التطور الذي أفضى الى الاقرار بوجود ممارسات أو نظم أو معايير سياسية مستقلة عن الشريعة وعن المعايير الدينية لم يؤد الى التنظير لاستقلالية السياسي عن الديني أو الدعوة للفصل بينهما". أما الاستاذ سعيد بن سعيد العلوي فنشر دراسة في المحور بعنوان:"العالم الاسلامي والمستقبل"حدد فيها المشكلات التي تواجه المسلمين أو واجهتهم في القرن العشرين، والمعالجات التي تعرضت لها أو جرى التصدي بها، ثم أشار الى الآفاق التي يتجه اليها الاصلاح الاسلامي، وسط الصعوبات الكثيرة المتعلقة من جهة بمشكلات بناء الدولة، والاجتهاد في الدين والدنيا من جهة ثانية. والأمر نفسه درسه الأستاذ محمد السمّاك تحت عنوان:"بين المتغيرات العالمية والثوابت الاسلامية". فالتغيير الذي يتجه اليه المسلمون اليوم يستفيد من دروس الماضي القريب، ويراجع الأولويات على أساس الثوابت، ويخوض اجتهادات جديدة وسط سياقات عالمية غير واعدة. وقد انتهى الأستاذ السماك للتنويه بمبدأ التعارف الذي قال به القرآن، وصار عماداً للثقافة الاسلامية في علائقها بالثقافات الأخرى. أما الأستاذ رضوان زيادة فقد قرأ التوظيف السياسي لمفهوم الفتنة في التاريخ الاسلامي، ولاحظ أن أطرافاً متعددة استخدمته في السلطة وخارجها، اما لأغراض سياسية بحتة، أو للتشديد على مفهوم الجماعة وضروراته، في حين اتجه رضوان السيد لقراءة المسألة نفسها في السياقات الحديثة والمعاصرة، ملاحظاً أن الفتنة التي تعني الانقسام الاجتماعي أو السياسي أو المرجعي، انما كان يراد من التنديد بها اعتبار ان التغيير السلمي والسليم انما يعتمد على المسؤولية الجماعية للمجتمع في العمليات الاصلاحية والتجديدية دونما استئثار أو ابتسار. وقد افتتح الاستاذ مصطفى الحرازين باب"الدراسات"في العدد التاسع من المجلة بمقالة طويلة بعنوان:"التغيير والتقعيد: قراءات في مفهومي الكفاءة والتقريب". وقد أوضح الحرازين سؤال دراسته في مقدمة المقالة بالقول:"عُني الفكر الاسلامي بالتقريب بين الاسلام والحداثة بما هو في جوهره محاولة لتزويد الاسلام بصيغ قولية اشارية ووحدات فعلية مشككة تنتمي الى المخزون اللغوي الحديث، فتتحقق عبر هذا التقريب لمفرداته الكفاءة وتتوافر لدعوته المشروعية". وقدم الأستاذ محمد هاشم عبدالله دراسة في ظاهريات ومفاهيم التأويل لدى المفكر الفرنسي الراحل قبل شهر: بول ريكور، بعنوان:"ظاهريات التأويل، قراءة في دلالات المعنى عند بول ريكور". ورأى عبدالله ان ما يمكن استفادته من ريكور في مجالنا الثقافي العربي الموروث والحديث: كيف يمكننا من خلال شروط معرفية صحيحة الانتقال من"فقه النص الى فقه الواقع". وفي الباب نفسه قدم السيد عبدالرحمن حللي دراسة بعنوان:"المجتمع العربي قبل الاسلام، دراسة قرآنية"، تابع فيها بدقة مشهودة صورة حقب ما قبل الاسلام في القرآن الكريم، واتجاهات المفسرين الأوائل، دونما اهمال للمصادر التاريخية. وفي باب"وجهات نظر"نشرت المجلة ثلاث دراسات: نحو سياسة لغوية في زمن العولمة للمصطفى جمال الدين، وبين العولمة والعالمية الاسلامية لنبيل علي صالح، واحسان عباس في نص غير منشور لعباس عبدالعليم عباس. وقد قدم الأستاذ جمال الدين نماذج للمتغيرات اللغوية بين القياسية والابداعية، وأوضح معنى ضرورة الرحابة والتسامح للمساومة والملاءمة واتساع امكانات التعبير. بينما حاول الأستاذ نبيل صالح المقارنة بين العولمة والعالمية الاسلامية، افتراقاً واتفاقاً على أساس قيميات عامة اقترحها نموذجاً للمقارنة والمقاربة. في حين قدم عباس عباس نصاً بديعاً للمفكر العربي الراحل الدكتور احسان عباس حول معنى التحقيق العلمي للمخطوطات العربية، وكيف ظهرت مدارس التحقيق وتطورت لدى المستشرقين والعرب. والأمر نفسه قام به الأستاذ المعروف يوسف بكار في مقالة بعنوان:"تحقيق التراث، لماذا وكيف": في باب"آفاق"، والمقالة غنية لجهة الأمثلة المذكورة، ولجهة القراءة النقدية للموضوع وتشعباته. أما الأستاذ فيصل الحفيان فقد راجع في باب"آفاق"أيضاً أعمال مؤتمر اقامة معهد المخطوطات العربية بالقاهرة عن"تراث العرب والمسلمين في العلاقات الخارجية". وقد عني ذاك المؤتمر بالحقل التاريخي للعلاقات بالآخر في مشرق العالم الاسلامي ومغاربه، كما عني بالنصوص التاريخية والفقهية والسياسية المكتوبة في ذاك الموضوع الشاسع. وتبقى ثلاثة من أبواب المجلة:"متابعات"وفيها دراستان طريفتان، أولاهما للباحثة الالمانية سابينا شميدكه عن القرائين اليهود وفكر المعتزلي أبي الحسن البصري. فقد جرى قبل عقودٍ اكتشاف نصوص معتزلية ضائعة في ترجمات عبرية استخدمها اليهود في علم اللاهوت أو علم الكلام عندهم، والسيدة شميدكه تقدم عرضاً معمقاً للموضوع الطريف والغني هذا. ثم تأتي في الباب نفسه مقالة للأستاذ تركي الربيعو بعنوان:"الاسلام وضرورة الخروج من دائرة الفتنة"، راجع فيها أعمالاً فكريةً عربيةً معاصرةً في هذا المجال، أي مجال التوسع والمراجعة والتجديد وتجاوز الانغلاق والاصوليات. وفي الباب الآخر: باب"مدن وثقافات"كتب الأستاذ شمس الدين الكيلاني دراسة عن"صورة أوروبا في رحلة ابن فضلان"في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. بينما راجع طوس محمود كتاب فريتس شتبات المستشرق الألماني بعنوان: الاسلام شريكاً، وراجع عفيف عثمان كتاب"هموم العولمة"لبرنار كاساك، والأول مترجم الى العربية، بينما الثاني مقروء عن الفرنسية. وهكذا تبقى مجلة"التسامح"في مفتتح عامها الثالث، مجلة المعرفة النقدية والانفتاح، وفي الوقت نفسه مجلة الالتزام والمسؤولية، أو كما قال رئيس تحريرها عبدالرحمن السالمي في افتتاحيتها وهو يقدم لملفه الرئيسي:"التكليف مسؤولية، والمسؤولية حق وواجب، لكنها أيضاً وعي وقدرة ومرجعية، والا لما خاطبنا الله سبحانه ورسوله بذلك، ولا كان كل منا راعياً ومسؤولاً عن رعيته".