يحتدم الصراع هذه الأيام في الوسط الإسلامي التونسي حول ما اصطلح على تسميته بقضية المصالحة الوطنية. والمصالحة تعني لدى دعاتها السعي إلى إطلاق سراح المساجين السياسيين الذين طالت محنتهم عن طريق مفاهمة مع الحكم تطمئنه وتجعله ينظر إلى قضيتهم نظرة إنسانية بعدما فشلت طرق"المواجهة"في تحقيق هذا الهدف. وفي هذا السياق يمكن فهم المبادرة التي أطلقها، الأسبوع المنقضي، عدد من رموز التيار الإسلامي. فقد أراد أصحاب هذه المبادرة كسر الجمود بين الحكومة والتيار الإسلامي وبناء جسور الثقة بينهما ودعوا من أجل ذلك إلى مراجعة أخطاء الماضي والابتعاد عن التشنج وعن عقلية التحجر الحزبي ولوحوا للمرة الاولى بإمكان فصل الدين عن السياسة مطالبين ب"إرساء قواعد في العمل الحزبي لا تتجاوز حدود العمل السياسي". وحتى لا يغالط المرء نفسه في هذا المجال لا بد من التسليم بأن المصالحة تقتضي في كل الأوضاع والأحوال التقاء إرادتين يحقق لطرفي النزاع مصالح متبادلة عجزا عن بلوغها بواسطة الصراع. وإذا كانت دوافع المصالحة لدى الطرف الإسلامي معلنة وتقوم على الرغبة في تسوية ملف المساجين في ظرف يتسم بانسداد الأفق وما يقتضي ذلك من مراجعة لاستراتيجية المواجهة واستبدالها بخيار الحوار والطمأنة فإن استعداداً مماثلاً لم يبد على الطرف المقابل الذي ظل يعتقد حتى وقت قريب أنه حقق سبقاً في ميدان التغلب على ظاهرة الإسلام السياسي ونجح بذلك في تأمين الاستقرار، نافياً وجود مساجين سياسيين لديه ومعتبراً أن ملف النهضة قد أغلق نهائياً وأنه لا سبيل للعودة إلى مسألة تأسيس حزب ديني في تونس. ويعتقد دعاة المصالحة من جانبهم أنه يجب عدم التوقف عند ظاهر الخطاب الحكومي وضرورة التقاط علامات يرونها تؤشر إلى اتجاهات جديدة تفرض على الفاعلين السياسيين واجب تلقفها والدفع بها إلى الأمام. ومن بين هذه العلامات إطلاق سراح البعض من المساجين السياسيين، خلال العام الماضي، ورفع الحبس الانفرادي على المعتقلين. ومن بين هذه العلامات أيضاً اللقاء غير المسبوق الذي تم، في شهر كانون الاول ديسمبر الماضي، بين السفير التونسي في برن ووفد عن حركة النهضة بقيادة السيد عامر العريض وما عقب ذلك اللقاء من تسوية لوضعية بعض اللاجئين. ولا يعزل دعاة المصالحة هذه العلامات عما طرأ أخيراً من تطور على موقف الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي من ظاهرة الإسلام السياسي، اذ قررا البدء في حوار مع ممثلي هذه الظاهرة في أفق إشراكها في عملية الإصلاح. ويتهدد المرء في هذا المجال خطران، خطر المبالغة في أهمية هذه العلامات وخطر إخراجها من سياقها العام فيهول من مدلولاتها ويبني على أساسها خططاً وبرامج تكون أقرب إلى الرغبة والخيال منها إلى الحقيقة والواقع. ولا بد في البدء من التسليم بحقيقتين أولاهما أن لمأساة المساجين السياسيين في بلادنا بعداً إنسانياً درامياً قل أن عرفته بلدان أخرى: أحكام ثقيلة بعشرات السنين سجناً وحبساً انفرادياً وعزلة عن العالم الخارجي ومعاناة لأهل المعتقلين الذي يجبرون عنوة وانتقاماً على التنقل إلى معتقلات نائية وعذاب لا ينتهي للمسرحين من السجن الذين يعيشون شتى أنواع الإقصاء والحرمان من الحقوق بعد قضاء عقوباتهم الثقيلة ومأساة أخرى لا يشعر بها إلا من عاش الإبعاد إلى ديار الغربة بالنسبة إلى المئات، إن لم نقل الآلاف من اللاجئين وعائلاتهم. ولا يمكن للمرء أن يوفِ هذا الملف حقه لأن مأساة كل عائلة وكل سجين تتجاوز حدود الوصف والتعبير، تستمع إلى شهادة واحدة فينتابك الألم والحزن ويغلب عليك الإحباط. أما الحقيقة الثانية فهي الإقرار بأن التطور الاجتماعي والمناخ الدولي الجديد والمجهود المبذول من قبل المنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية لم تبلغ جميعها بعد الحد الذي يمكن للمرء أن يتفاءل معه بقرب نهاية هذه المأساة الكبيرة. لكن التسليم بهاتين الحقيقتين لا يعفي من التمييز بين مستويين. مستوى أول، إنساني شخصي لا يملك فيه المرء أن يسدي دروساً في التضحية لمن تحمل الاعتقال والإبعاد والحرمان كما لم يتحمله غيره أو أن يجادله في تحمل المزيد. ومستوى ثان، سياسي عام، يكون فيه المرء محمولاً على تفحص ما يطرح على المجتمع من خطط وبرامج وتمحيص النظر في مرتكزاتها ومؤدياتها وإبداء الرأي فيها، وهو المستوى الذي يهمنا هنا. من وجهة النظر السياسية لا يعد الملف الإسلامي ومسألة المساجين قضية معزولة أو صراعاً ثنائياً بين الحكم والحركة المعنية به مباشرة، وإنما شكل هذا الملف بداية لانهيار طال جميع المؤسسات السياسية والاجتماعية في بلادنا، وأسس لحالة من الاستثناء أتت على الأخضر واليابس في حقل الحياة العامة ، انهارت الأحزاب وغابت الصحف وانكمشت الجمعيات وتكلست النقابات وصودرت الحقوق والحريات وتعطلت المؤسسات وانعدمت الشفافية وساد الحكم الفردي. وبعد هذا الزلزال أخذ المجتمع يسترجع أنفاسه فعادت القطاعات إلى التحرك، قضاة ومحامون وجامعيون وصحافيون ونقابيون وحقوقيون وسياسيون، وفي إطار هذه الاستفاقة يتنزل مطلب العفو العام الذي تصدر سائر المطالب السياسية الأخرى وأحرز على إجماع منقطع النظير باعتباره مدخل كل إصلاح وشرط عودة الطمأنينة إلى نفوس المواطنين ومشاركتهم في الحياة العامة بعيدا عن الخوف والتهديد. وتزامن هذا التطور مع تطورات دولية أخرى وضعت مسألة الإصلاح في صدارة الاهتمامات الدولية وأحرجت النظم العربية والإسلامية التي تحتجز لديها آلاف المساجين من المثقفين ودعاة الإصلاح. في إطار هذا التطور العام يمكن أن نفهم العلامات التي يعدها دعاة المصالحة مؤشرا على تطور انفراجي جديد. فقرار الإفراج عن بعض المساجين لم يشمل سوى من لم يبق له سوى بضعة أشهر من عقوبات بلغت الأربعة عشر سنة سجناً قضاها أصحابها في الحبس الانفرادي ولم تشمل واحداً من القيادات التي ترزح تحت وطأة أحكام ثقيلة تبلغ العشرين والثلاثين عاماً وتتجاوزها أحياناً إلى الأربعين والمؤبد. وحالات اللاجئين التي سويت في أعقاب"لقاء برن"لم تطل سوى الأشخاص الذين قرروا التخلي عن كل نشاط سياسي والتزموا بذلك كتابة. وهذا اللقاء على فرادته وأهمية دلالاته لم يشفع بأي بادرة أخرى بل كان منطلقاً لإزكاء الصراع في الوسط الإسلامي وبدا كأنه مناورة لعزل قيادة النهضة المرمية بالتطرف والتحضير لانقسام داخل صفوفها. إن هذه العلامات الجديدة، منظوراً إليها في سياق الوضع العام، لا تعدو أن تكون محاولة من الحكم للتأقلم مع التطورات الداخلية والخارجية والتهيؤ لكل الاحتمالات من دون أن يمكن وصفها بالتحول في معالجة الملف الإسلامي أو قضية المساجين السياسيين في بلادنا. فهل يمكن لها أن تشكل منطلقاً لديناميكية جديدة في المستقبل؟ الموضوعية تقتضي الإقرار بأن هذه الإجراءات المحدودة لا يمكن أن تولد في ظل علاقة القوى السياسية الحالية بين المجتمع والدولة سوى مفاهمة بشروط هذه الأخيرة، معالجة القطرة قطرة وتخلي المفرج عنهم عن كل نية في العودة إلى العمل السياسي المستقل أو بقاؤهم تحت الرقابة اللصيقة والإبعاد والتهديد بالعودة إلى السجن. المسألة تكمن إذن في تطوير علاقة القوى السياسية، وفي غياب هذا الشرط يحيد إخراج ملف المساجين السياسيين عن إطاره العام، والمراهنة على حسن الإرادة وطيب النية لدى الحاكم، إلى إعادة أخطاء الماضي حين سلمت المعارضة زمام المبادرة للحكم وفرطت في وحدتها وانبرت الى منافسة محمومة بين اطرافها للتقرب من الحكم أملاً في الحصول على البعض من الحقوق أو الامتيازات. دروس التجربة التونسية، ومسار حركات الإصلاح في العالم تعلمنا أن الإصلاح ينتزع ولا يوهب وأن التفريط في وحدة الحركة الاجتماعية والسياسية وفي زمام المبادرة يعرض التجربة إلى الانتكاس ويؤخر ساعة الفرج. المصالحة ليست مرفوضة من حيث المبدأ وإنما تأخذ معناها ويتحدد مؤداها ضمن السياق التاريخي المخصوص، وفي السياق التاريخي الذي نعيش يحتل الإصلاح الديموقراطي مرتبة الحاجة الحيوية للمجتمع ولا تكتسب الديمقراطية بالكلمة الطيبة، وإن كانت محمودة، وإنما بتوازن في العلاقات لم تنضج ظروفه بعد. والديموقراطية تحديدا تقوم على سوء الضن بالناس وعلى اعتبار أن الإنسان مجبول على الاستبداد بالطبع، لذلك قامت الديموقراطيات الحديثة على مبدأ المراقبة والتوازن والذي يتجسد من خلال الفصل بين السلطات وتبادل الرقابة بينها والتداول عليها. والإصلاح الذي ينشده الشعب التونسي اليوم إصلاح كلي يشمل البناء الدستوري والتشريعات والمؤسسات على قاعدة القطيعة بالذات مع الحكم الفردي وهيمنة حزب على الدولة. ولن يتحقق هذا الإصلاح بالتمني وإنما من خلال ذلك التوازن المفقود. وفي سياق العمل على إحداث ذلك التوازن يمكن طبعا أن تستقل المطالب الإصلاحية بشيء من الذاتية والخصوصية فيتحقق بعضها قبل الآخر ولكن تشكل جميعها روافد لحركة كلية واحدة منتهاها الإصلاح والديموقراطية. لذلك ومهما كانت الأهمية السياسية لملف المساجين السياسيين كبيرة ومهما كان طابعه الإنساني ملحاً فإن عزل قضية المساجين عن مسارها العام، وفي ظرف محلي وإقليمي ودولي مؤات، من شأنه أن يضعف المسار الإصلاحي من دون أن يؤمن حلاً لقضية المساجين أو الإسلاميين بغير الشروط المجحفة التي يتمسك بها الحكم. وفي انتظار ذلك لا يملك دعاة المصالحة، من الناحية السياسية، أن يقدموا للحكم لقاء"حلهم الإنساني"لقضية المساجين السياسيين سوى تخليهم عن دورهم المطلوب في إنضاج ظروف التغيير وإسعافه بشيء من التزكية في وقت هو في أشد الحاجة إلى ربح الوقت. الأمين العام للحزب الديموقراطي التقدمي - تونس.