في أواسط سبعينات القرن التاسع عشر، دارت في لندن معركة فنية كبيرة كان القضاء والصحافة ساحتيها والفن موضوعها، أما طرفاها فكانا الرسام جيمس ويستلر وكان في الأربعين من عمره في ذلك الحين وفي قمة مجده الفني، والناقد جون راسكين الذي كان تجاوز الخمسين من عمره. المعركة بدأت يومها بمقال كتبه راسكين عن ويستلر يصفه فيه بأنه مهرج، وبأن فنه لا يساوي قيمة الألوان التي يرميها على اللوحة البيضاء وفي وجوه المشاهدين. وعلى الفور راحت جوقة من الصحافيين تتحلق من حول راسكين وتهاجم ويستلر بدورها، آخذة عليه انه يضحي بالمضمون في رسومه لمصلحة الاشكال المجانية. ازاء هذا الهجوم الذي لم يكن مبرراً في رأيه، أقام ويستلر دعوى قدح وذم أمام المحاكم. وربح دعواه دافعاً راسكين الى التراجع. وكانت تلك المعركة القضائية في ذلك الحين فريدة من نوعها. صحيح ان ويستلر خرج منها منتصراً، لكنه خرج هشاً مضعضعاً أيضاً. ذلك ان مزاجه ما كان ليحتمل ذلك النوع من المواقف، خصوصاً أن ربحه المعركة لم يعن تغاضي الجمهور عن الإيمان برأي راسكين الذي كان مرجعاً نقدياً كبيراً في ذلك الحين. كما ان ويستلر كان يعرف جيداً انه، في كل ذلك الصخب، إنما كان يدفع، في شكل غير مباشر، كلفة الخلاف بين راسكين والكاتب المؤرخ توماس كارلايل. وكان واضحاً ان كراهية راسكين لكارلايل جعلته ينظر بعين الغضب الى ويستلر، وكرس لصاحب"البطولة وعبادة الأبطال"واحدة من أجمل وأقوى اللوحات البورتريه التي رسمها في ذلك الحين! * على هذه الخلفية إذاً، دارت تلك المعركة الفنية الشرسة. وإذ مرت الأيام بقيت اللوحة ونُسي الخلاف، واختفت مقالات راسكين وبقي فن ويستلر. أما اللوحة المذكورة والموجودة الآن في متحف غلاسغو للفنون، فتبقى شاهدة أولاً على صداقة عميقة بين الفنان والكاتب، وثانياً على استمرار تأثر ويستلر بفنون الشرق الأقصى، لا سيما بالملصقات اليابانية. ثم ثالثاً وأخيراً على المزاج الذي كان يحكم حياة توماس كارلايل نفسه في ذلك الحين، أي في زمن كانت أحزان حياته الشخصية تسيطر على عيشه ككل. * بالنسبة الى البعد الأول، لا بد من أن نشير الى أن هذه اللوحة وعنوانها"تدبير بالرمادي والأسود 2"تعتبر توأم لوحة أخرى تحمل العنوان نفسه ومرقمة"1". وهي تمثل ام الفنان في الجلسة نفسها التي يجلسها كارلايل في لوحته. وكان ويستلر، رسم البورتريه الأول - لأمه - في العام 1871، متأثراً فيها بالتركيب الياباني للمشهد، وذلك على خلفية جدار رمادي، جعل نصفه الأسفل أسود اللون، وقطع ذلك كله بلوحة معلقة على الجدار، وستار أسود اللون مزين بنقوش فاتحة. ولقد أعجب كارلايل، الذي كان صديقاً للفنان، بتلك اللوحة في ذلك الحين، وطلب من ويستلر أن يحقق له واحدة مثلها... ففعل عن طيب خاطر واضعاً كارلايل في مكانة أمه نفسها، بالنسبة إليه. وبالنسبة الى البعد المتعلق بالتأثر بفنون الشرق، يبدو هذا واضحاً من التلوين ومن خلفية اللوحة، ولكن أيضاً من التوقيع الذي جاء على شكل فراشة في دائرة رسمت على الجدار خلف كارلايل. * غير ان الأهم في اللوحة هو تلك اللحظة التي التقطها ويستلر لحياة صديقه، والتي عبرت عنها جلسة هذا الأخير، التي تحمل من الاستسلام ازاء القدر، بقدر ما تحمل من الاسترخاء واللامبالاة. ومنذ البداية هنا، قد يكون من المفيد أن ننقل عن ويستلر ما قاله يوماً من أن كارلايل لم يقتنع بأن يجلس لكي تُرسم هذه اللوحة، إلا بعد أن كان شاهد اللوحة الأخرى التي تمثل أم الفنان وأبدى بها إعجاباً فائقاً. ولولا هذا لما كان من شأنه أن يترك فناناً، ولو كان صديقاً حميماً له، يرسمه. ففي تلك المرحلة من حياته كان توماس كارلايل حزيناً، سوداوي التفكير، و"صموتاً الى حد لا يطاق"? بحسب تعبير ويستلر -. ومن الواضح لمن ينظر الى هذه اللوحة ان الفنان عرف كيف يلتقط ذلك كله... بل التقط أيضاً حس الكبرياء والسمو على الألم الذي كان يعتمل في باطن"موديله"، اضافة الى ما التقطه من نباهة هذا الأخير وذهنه المتوقد، سواء ألاح ذلك من نظرته الثاقبة على رغم حزنها وتأملها في البعيد، أو من خلال راحة يده الممسكة بالعصا. وتقول لنا الحكاية ان هذه الجلسة، التي كان مكانها استوديو الفنان في لندن، تحققت من"توافق"بين الفنان والكاتب، بعد أن طلب الفنان من الأخير أن يغير جلسته مرات ومرات حتى يتوصل في نهاية الأمر الى الجلسة التي يحب رسمها. ولقد تمرد كارلايل ذات لحظة وهدد بأن يوقف كل ذلك، متهماً الفنان بأنه يهتم بمعطفه وقبعته أكثر من اهتمامه بجلسته وروحه الداخلية وأكثر كثيراً مما يهتم بملامح وجهه. ويقيناً ان كارلايل سيغير رأيه لاحقاً حين يشاهد اللوحة وقد اكتملت. * ترى هل كان ويستلر يعرف الكثير من كتابات كارلايل حين رسم له هذه اللوحة؟ أو يشك فيه مؤرخو الفن من الذين يقولون ان ويستلر لم يكن واسع الاطلاع على الدراسات التاريخية والفكرية التي كان ينشرها صديقه في ذلك الحين. لكنه في المقابل كان يعرف بعض الأشياء عن اشتغال كارلايل على المقارنة بين النزعات الإيمانية في زمنه، وبين أفكار العصور الوسطى - كما تجلت في كتابه الذي كان صدر قبل فترة بعنوان"الماضي والحاضر"-. كما انه، أي ويستلر، كان يعرف الكثير عن حب صديقه للصمت والهدوء، وهو الذي كان بنى من حول جدار بيته في تشلسي جداراً ثانياً، وملأ الفراغ بين الجدارين بالرمل، لئلا يصل اليه شيء من ضجيج الشارع. والحال ان حس الصمت هذا يكاد يكون العنصر الطاغي على اللوحة. * ومع هذا، من الواضح لمن يدقق في هذه اللوحة ان انجازها لم يكن، بالنسبة الى ويستلر، على السهولة التي توحي بها النتيجة. وفي هذا المجال، أشار دارسو أعمال هذا الفنان، وهم يتحدثون عن هذه اللوحة بالذات، الى تلك"الأخطاء"الفنية التي نتجت من تراكم ألوان وخطوط، خلف ظهر كارلايل معكوسة على الجدار، ومن حول قبعته وقبضتي يديه، ما يوحي بأن الفنان أعاد مرات ومرات تشكيل الصورة في تلك الأمكنة، تطلعاً الى أن يحصل على النتيجة التي كان يتوخاها ويتوخى منها ألا تكون شكلية فقط، بل معبّرة عن جوانية كارلايل. والحقيقة ان كل هذا الجهد، هو الذي جعل ويستلر، يقول في العام 1891، أي بعد عقدين تقريباً من رسم هذه اللوحة، انها المفضلة لديه من بين كل أعماله فپ"أنا أحب الحزن اللطيف الذي تعبر عنه"والحال أن كارلايل، حين رُسم على تلك الشاكلة كان أرمل منذ ثمانية أعوام. وكان يوصف بأنه رجل شديد الجدية، حين يحدق يحدق في اللانهاية، وحين يفكر يفكر طويلاً وبعمق، وحين يتحدث يختصر الى أبعد الحدود. وكل هذا يبدو واضحاً في اللوحة. * أما جيمس ويستلر، صاحب اللوحة، فكان في ذلك الحين سيداً من سادة الساحة الفنية الانكليزية، ولد في العام 1834 في ماساشوستس في الولاياتالمتحدة، وأمضى طفولته في سانت بطرسبورغ الروسية، لينتقل بعد ذلك الى باريسولندن، إثر فترة عمل فيها رسام خرائط مع البحرية الأميركية. وبين العاصمتين الانكليزية والفرنسية أمضى ويستلر سنوات شبابه الأولى، وانصرف الى فن الرسم، وارتبط بصداقات مع بودلير ومانيه وغيرهما. غير ان فنه لم يستقر أبداً على اتجاه واحد، إذ رأيناه في حين انطباعياً وفي حين رمزياً، وبين الاثنين متأثراً بالفن الياباني بدرجات متفاوتة. وهو في الاحوال كافة، وحتى رحيله في العام 1903، لعب دوراً أساسياً في الحداثة الفنية الانكليزية... كما يشرح لنا بنفسه في كتاب طريف وضعه بعنوان"الفن اللطيف في صناعة الأعداء"1890.