إذا استثنينا ادموند ويلسون وبعض كبار النقاد الحادين والساخرين، يمكننا اعتبار جون راسكين واحداً من الذين أوصلوا اللغة النقدية في القرن التاسع عشر إلى مستويات أرقى الفنون الجميلة، من ناحية، وإلى المحاكم والقضاء من ناحية ثانية. فهذا الشاعر والرسام والناقد الأدبي ومؤرخ الفنون الحديثة والقديمة، لم يكن من النوع الذي يمضغ كلماته كثيراً قبل أن ينطقها أو يكتبها بحسب تعبير فرنسي شهير مفاده أن من لا يمضغ كلامه، هو الذي يطلق هذا الكلام على عواهنه وكيفما اتفق. فراسكين كان دائماً شديد الحماسة، سلباً وإيجاباً. إذا أحب عملاً أو مبدعاً دافع عنه حتى النهاية، وإذا أثار اشمئزازه عمل آخر أو مبدع آخر، هبط به من أعلى الذرى إلى أسفل الدركات. ومن هنا اعتبر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في بريطانيا الفكتورية المتزمتة، حالة على حدة... خصوصاً أن التأريخ للفنون والآداب ونقدهما، لديه، كانا مرتبطين بنظرته إلى المجتمع. وهي نظرة كانت تقدمية في بعض الأمور رجعية في بعضها الآخر. ولعل معارك راسكين القضائية مع مواطنه الرسام ويستلر تصور ذلك كله خير تصوير. في ذلك الحين كان ويستلر الذي عاش وعمل مع الانطباعيين في فرنسا، من أشهر رسامي بريطانيا. غير أن راسكين لم يكن يرى هذا الرأي. بالنسبة إليه كبير الفنانين الإنكليز كان تيرنر ولا أحد غير تيرنر، حتى وإن كان هذا الأخير وويستلر قد استقيا من مصدر واحد هو الانطباعية الفرنسية. راسكين كان يرى أن تيرنر صادق في فنه، تمكّن من أن يطوّع الانطباعية لنمط إنكليزي خاص به. أما ويستلر «فمزيف، مقلد لا إبداع لديه، يرسم بعقله أكثر مما يرسم بقلبه». ويمكننا، طبعاً، أن نتصور مبلغ قسوة حكم كهذا. لكن جون راسكين لم يكن، في الوقت نفسه، من الذين يطلقون الأحكام في شكل عشوائي. فأنت، إن كنت مؤيداً له أو كنت مناهضاً لا يمكنك إلا أن تقر باجتهاده وبأنه لا يصدر حكماً إلا وفي جعبته الأدلة والبراهين والتحليلات. من هنا تجده، كي يدعم نظرته المقارنة هذه، يؤلف كتاباً سيصبح واحداً من كتبه الرئيسة، بل واحداً من أشهر كتب الفن في اللغة الإنكليزية جعل عنوانه «الرسامون الحديثون». وهذا الكتاب ألفه خلال السنوات الأولى من أربعينات القرن التاسع عشر، وبدأ ينشر أجزاءه عام 1843، حيث صدر الجزء الأول من دون اسم المؤلف الذي اكتفى بعبارة «بقلم متخرج قديم من أكسفورد»... ثم عاد في أجزاء تالية ليضع اسمه على الكتاب، علماً بأن نشر الأجزاء الخمسة التي تؤلف هذا السفر التاريخي - النقدي، استغرق نحو عشرين سنة. منذ البداية كان واضحاً أن الغاية الأساس التي توخاها راسكين من وضع هذا الكتاب إنما كانت الدفاع عن فن تيرنر ضد تهم كانت توجه إليه بأن فنه غير صادق مع الحياة غير مهتم بها. غير أن هذا المنطق سرعان ما تشعب، إذ لم يعد الكاتب ملتزماً بالتوقف، فقط، عند أعمال تيرنر، بل صار همّه في شكل عام أن يؤكد أن رسامي المشاهد الطبيعية الإنكليز المعاصرين - وتيرنر في مقدمهم طبعاً - هم أفضل كثيراً وأصدق جمالية وحدساً، من المعلمين القدامى، أي الذين ظهروا في المرحلة الأخيرة من مراحل النهضة الأوروبية، لا سيما غاسبار بوسان، كلود لورين وسلفاتور روسا. ولقد ركز راسكين في انتقاده المعلمين القدامى، على ما رأى لديهم انه افتقار حقيقي للإحساس بالطبيعة. فهم، ودائماً بحسب راسكين، «بدلاً من أن يفعلوا فعل تيرنر بالرسم مباشرة في أجواء الطبيعة والتفاعل معها، كانوا يرسمون مشاهدها في ستديواتهم ومحترفاتهم». ومن هنا «لا بد من أن نلاحظ ان تيرنر وغيره من المحدثين يصورون الماء والهواء والسحب والنباتات والحجارة مستقاة من مصدرها الطبيعي مباشرة». قسم جون راسكين الأجزاء الخمسة التي يتألف منها الكتاب إلى تسعة أقسام: «حول المبادئ العامة» (1843 - 1844) «حول الحقيقة - في الفن» (1843 - 1846) «حول أفكار الجمال» (1846) «حول أمور متعددة» (1856) «جمال الجبل» (1856) «جمال أوراق الشجر» (1860) «جمال السحب» (1860) «حول أفكار العلاقات والترابط» وهذا الأخير في جزءين: «حول الابتكار الشكلي» (1860) و «حول الابتكار الروحي» (1860). وهنا لا بد من أن نذكر أن راسكين وضع الجزءين الأولين من الكتاب فور عودته من جولة قام بها إلى إيطاليا التي سيكتب لاحقاً صفحات عدة حول فنانيها خصوصاً حول عمرانها («حجارة البندقية» - 1/1851853)، كما سيضع كتابه الأشهر «مصابيح الهندسة السبعة» مستلهماً فنونها. أما الأجزاء الثلاثة الأخيرة، والتي تضم ستة أقسام، فوضعها بعد أن كان تيرنر قد رحل عن عالمنا، ما «يبرر» كون ذكر هذا الفنان قد تضاءل بعدما كان يشغل معظم صفحات الجزءين الأولين. وكان هذا أيضاً مأخذاً أخذه النقاد على راسكين، مذكّرين بأن أفضل صفحاته عن تيرنر إنما كتبت يوم كان هذا ذا نفوذ كبير وعضواً أساسياً في الأكاديمية الملكية، ناهيك بتعمد راسكين ألا يوقع اسمه على الجزءين الأولين! في كتابه هذا ككل يؤكد لنا راسكين أول ما يؤكد أن فن الرسم الكبير، بل الفن الكبير بصورة عامة «إنما هو ذاك الذي يضع الروح والعقل أمام أكبر عدد ممكن من الأفكار الرفيعة». ولتوضيح ما يعنيه بالأفكار الرفيعة، يميز راسكين بين مفاهيم القوة والمحاكاة والحقيقة والجمال، راسماً خريطة فريدة للعلاقات بين هذه الأفكار، قبل ان يكرس الجزء الأكبر من صفحات مجلدات كتابه لفكرة الحقيقة التي كان من الواضح انها تعني بالنسبة إليه أكثر مما تعني أية فكرة أخرى. لكنه يستدرك هنا قائلاً إن ليس في إمكاننا الحكم على ما إذا كان عملاً فنياً حقيقياً أو لا - أي أميناً للمشهد الطبيعي وللطبيعة -، إلا إذا كنا نمتلك تربية فنية ضرورية. ثم أن الحقائق الخاصة في الفن، كما يقول راسكين، هي أكثر أهمية من الحقائق العامة. وإذ ينطلق راسكين من هنا نراه، على مدى أجزاء الكتاب، الأخيرة خاصة، يضعنا في مواجهة أفكار شديدة الأهمية مثل العلاقة بين السامي والجميل، ليقول لنا هنا إن «الجمال يوقظ لدينا انطباعات أخلاقية، وليس بالضرورة حسّية وذهنية. وهذه الانطباعات لا يتعين بالضرورة الخلط بينها وبين الحقيقي أو المفيد، وذلك لأنها لا تتعلق لا بمجرى العادة، ولا بالترابط الذهني بين الأفكار، بل ببعض الأنماط والميزات الخاصة مثل الشعور باللانهائية والارتياح، والتساوق والصفاء والاعتدال»... وهي أنماط لا يكف راسكين عن السعي إلى العثور على أصولها في الفضاءات الإلهية. حيث إن «الرسام، ورسام الأوجه في شكل خاص، يتعين عليه، كي يكون مميزاً، أن يركز على السمة المافوق إنسانية للشخص، أو حتى الشيء، المرسوم»، إما «بواسطة ظواهر لا علاقة لها بالمنظومة الطبيعية، أو عبر رفع الشكل إلى مستوى مثالي ما يعني الوصول بالفن إلى ذروة ذراه»... ومن نافل القول هنا إن جون راسكين (1819 - 1900) يفيدنا بين فصل وآخر انه إذا كان ثمة من فنان «معاصر» تكاد كل هذه السمات تنطبق عليه، فإن هذا الفنان هو ويليام تيرنر. هذا الفنان الذي عرف، في رأي الناقد، كيف يجعل الفن رابط العلاقة بين الإنسان والخالق. ومن الواضح أن هذه الفكرة الذهنية السامية إنما تنتمي إلى راسكين أكثر مما تنتمي إلى تيرنر، إذ إن راسكين حكم وفي شكل دائم وصارم كل إبداعه الفني، كما كل إبداعه في تاريخ الفن ونقده، بسمات تجعل الجماليات عنده تحت هيمنة اهتمامات مثالية، أخلاقية... وربما صوفية أيضاً. وهذا ما نلاحظه في رسومه وأشعاره، كما نلاحظه في كتبه العديدة، التي لم نذكر هنا سوى بعضها. ذلك أن جون راسكين، كان غزير الإنتاج، كما كان غزير المعارك والصدامات والقدرة على صنع العداوات. كما القدرة على تبجيل الأصدقاء. [email protected]