مرة أخرى يمتزج حبر الصحافيين مع دموعهم وهم يمسكون بأقلامهم ليشهدوا على رحيل زميل لهم قرر مغتالوه أن يكون باكراً وظالماً. مواكبة جثمان الكاتب والصحافي والشهيد سمير قصير الى مثواه الأخير، كانت بالأمس، كابوساً يتكرر على مشيعيه الذين وقفوا في الساحة نفسها التي شيعوا فيها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وفي الساحة نفسها حين انتفضوا مع قصير لاستقلالهم. تجمعوا، اعلاميين ومثقفين وطلاب جامعات، في ساحة الشهداء على بعد أمتار من مبنى جريدة"النهار"، ومشوا الى حيث ارتفعت صورة عملاقة لقصير غطت المبنى الزجاجي لپ"النهار"لينضموا الى من سبقهم الى هناك. قادة"معارضة البريستول"توالوا على الحضور للسير خلف النعش، وفي مقدمهم رئيس"اللقاء النيابي الديموقراطي"وليد جنبلاط والنائب مروان حمادة متكئاً الى عكازه وبقية أعضاء الكتلة وشخصيات من"لقاء قرنة شهوان"وبينهم النواب: بطرس حرب ونايلة معوض ونسيب لحود، ومن كتلة"تيار المستقبل"وبينهم النواب: محمد قباني ووليد عيدو وغنوة جلول وميشال فرعون، وأركان"حركة اليسار الديموقراطي"التي كان قصير عضو لجنتها التنفيذية وحشد من الشباب الذين تتلمذوا على يد الدكتور في"جامعة القديس يوسف"والهيئة التعليمية، وشخصيات فلسطينية في لبنان، الى جانب أسرة"النهار"وفي مقدمهم رئيس مجلس الادارة المدير العام جبران تويني الذي أسدل على صدره وشاح المعارضة الأحمر والأبيض. انتظرت الجموع وصول نعش الشهيد لمواكبته الى ساحة النجمة للصلاة عليه في كنيسة القديس جاورجيوس للروم الارثوذكس. وكانت رحلة وداع سمير بدأت من مستشفى القديس جاورجيوس في الاشرفية حيث كان جثمانه الممزق أودع فيها بعد جريمة اغتياله. ثم مرّ نعشه في موكب سيار الى منزله في الأشرفية الى القرب من المكان الذي اغتيل فيه. ونزل سكان الحي الى الطرقات لوداعه، وتابع الموكب سيره الى مبنى"النهار"وهناك تدافعت أيدي الشباب لحمله على الأكف. ولف النعش بالعلم اللبناني، وتقدم الى حمله: تويني والياس عطالله والياس خوري وأكرم شهيب والنائب محمد حجار وآخرون. وسارت خلفه عائلته المنكوبة: زوجته الإعلامية جيزيل خوري وأولادهما وكل المنتظرين. وتقدم المشيعين رجال الدين الذين راحوا يرتلون صلاة من أجله. وحمل كثر أعلاماً لبنانية ورايات"اليسار الديموقراطي"وصور قصير وأكاليل زهر أحدها باسم"منظمة التحرير الفلسطينية"- لبنان، ولافتات كتب على بعضها"من كمال جنبلاط الى سمير قصير القاتل واحد"، و"سمير قصير طوبى لك يا هادم الأوثان"وأخرى رسم عليها علامة استفهام كبيرة وذيلت بسؤال:"من التالي؟". وثالثة"استشهاد سمير قصير من عجائب إميل لحود". وفي ما عدا ذلك صمت وذهول ونحيب خافت. خرق نعش سمير قصير وسط بيروت في اتجاه ساحة النجمة. انه النعش الأول الذي يدخل المكان المخصص للفرح، وكان الموت جاور هذا الفرح قبل أشهر حين رقد جثمان الرئيس الحريري على تخومه. في تلك اللحظات لم تعد ساحة النجمة تشبه نفسها، بلعت المقاهي طاولاتها وكراسيها الى أجوافها وخرج الموظفون من الطبقات العليا الى الشرفات وتجمع العشرات على الأرصفة وحول الساعة الشهيرة وصفقوا طويلاً للآتي اليها محمولاً على الأكف. وكان التصفيق يزداد كلما اقترب النعش من الساحة. دارت الجموع حول الساعة وتوقفت أمام باب المجلس النيابي المغلق وصعد حاملوه به على درجات قليلة وعلا التصفيق مجدداً، ثم أكملت الجموع في اتجاه الكنيسة التي غصت بالشخصيات المنتظرة خارجها وفي حرمها. وقف ناشر"النهار"غسان تويني عند الدرجات المؤدية الى الكنيسة ولوح لنعش قصير وبدا حزنه كبيراً. صرخت الجموع"افتحوا الطريق أمام النعش"، فاخترق المئات داخل الكنيسة وعلا التصفيق مجدداً لسمير قصير ليسجى أمام المذبح تحيط به عائلته وأكاليل من الزهر الأبيض ووردة حمراء حملتها جيزيل خوري ووضعتها على النعش علها تصل الى صدره أو جبينه وجلست والى جانبها ابنتا سمير يذرفن الدموع وأيديهن تأبى أن تفارق النعش. كان مشهد وداع عائلة سمير صعباً على حضور الصف الأمامي الى يمين النعش، هناك جلس من خبر ظلماً مماثلاً طال زوجاً أو أباً أو شقيقاً أو ابنة. على تلك المقاعد جلست النائبة بهية الحريري والنائبة نايلة معوض والنائبة المنتخبة صولانج الجميل، وجلس أيضاً النائب جنبلاط والنائب المنتخب سعد رفيق الحريري والرئيس أمين الجميل. وجلس بينهم السفير الفرنسي برنار ايمييه وسفير الاتحاد الأوروبي باتريك رينو، وجلس خلفهم جميعاً السفير الأميركي جيفري فيلتمان والسفير البريطاني جيمس وات. وغصت الكنيسة بعشرات الشخصيات السياسية والحزبية والإعلامية وتقدمهم وزراء الإعلام شارل رزق والعدل خالد قباني والبيئة والتنمية طارق متري والمال دميانوس قطار والتربية أسعد رزق ونقيبا الصحافة محمد البعلبكي والمحررين ملحم كرم، كما حضر ممثلون عن قيادة"التيار الوطني الحر"، وأبرزهم عصام أبو جمرة وجبران باسيل. وكان العماد ميشال عون قدم التعازي لزوجة قصير مساء أول من أمس في منزلها. ومثّل المطران سمير مظلوم البطريرك الماروني نصرالله صفير، والمطران يوسف كلاس بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث. وترأس مراسم الجنازة مطران بيروت للروم الارثوذكس الياس عودة ومطران جبل لبنان جورج خضر وعاونهما عدد من الكهنة. بعد الصلاة ألقى المطران خضر كلمة خاطب فيها الشهيد قائلاً:"يا سمير، يا راقداً في سلام الحقيقة، لقد جرحت التنين كثيراً مثل صاحب هذه الكنيسة فاهتاجت التنانين عليك لقتلك وسلاحك الأمضى هو القلم الذي يضع كلمات تجيء في عمقها من الكلمة الذي كان في البدء". وأضاف:"التنانين تموت آجلاً أم عاجلاً في مصير وحشيتها، لقد شئت أن تمرح الحرية في بلدك وكل أقطار العرب ليحيوا، ذلك ان الجاهلية كعاصفة هوجاء تعود وأنت في الجهل مذكر بالعلم وفي الظلم مذكر بالعدل في كل أذهنة الناس". وقال:"غدت دعوتك ان تفك القيود لتبحث معك عن قيد الحب وحده، وان نقوله في كل ساعة وأن نذوقه ونذيعه ولكن الذين ترعرعوا على الحقد يأبون إلا أن يتحكموا، خبر المحبة يؤذيهم فيظنون ان إبادة الأبرار تسكتهم، ولكن البر منجاب ويعدل بين البررة حتى يأتي من يعلن سيادة الله على الناس". وتحدث عن مزايا الفقيد وقال:"الوطن لا يعرف بحجمه لكنه يعرف بدعوته وإطلالاته ووحدته كي لا يكتب عليه الذل ولا يكتب على الآخرين الاذلال، والوطن يتناغم وأوطان أخرى تشترط لنفسها الحرية، والخدمة لا تقع في العدم وقد تتناجى بلداننا لغة واحدة وتطلعات متقاربة كما هي الحال في المشرق العربي، كل هذا كنت تعرفه يا سمير وتدعو اليه، فأنت كنت محباً لشعوبنا وما كنت محباً لحكام ما كانوا حكماء، لأن السلطة في بلاد الحرية تتداول، وأما الناس فباقون". وخاطب الفقيد قائلاً:"لا تخف يا صاحبي فالوطن تصنعه القلة لأن الاطهار قليل، ولا يعلم الأكثرون ان النقاوة هي المبدعة في كل الحقول بما فيها السياسة. إنك علمت طلابك وقراءك الحرية وأرجو أن يفهموا انها حرية من أجل قيام الجميع بناء متراصاً وأنت استهدفت هذا التراص بين كل عائلاتنا الروحية تيامنت أو تياسرت. لقد عرّف الإغريق الديموقراطية بحكم الشعب غير انني مذكر ان هذا ليس حكم الدهماء، فالجهل وابتزاز القوم والسلطوية والهدر، الكلمة المهذبة للسرقة، لا حكم لها لأن الخطايا إذا سادت لا تبقى أمة، سمير كنت تعرف كل ذلك فخشيك الخطّاؤون وصموا آذانهم لأنهم أبوا أن تتوب قلوبهم، لكنك في رحيلك ما زلت قائلاً ما كنت دائماً تقوله ونحن لك من التابعين". وألقت نايلة تويني كلمة جريدة"النهار"اعتبرت فيها ان كلمات سمير قصير"أصبحت النهر الذي يروي أرض الحرية، والجرس الذي يوقظ الوجدان العام". وقالت ان"سمير قصير هو في الدرجة الأولى شهيد شباب لبنان وشهيد آمالنا ومستقبل أفضل في بلدنا، وشهيد حلمنا في أرض صدرها واسع يحمل جرأتنا وشجاعتنا واتقادتنا". ورأت"ان قاتل سمير قصير هو كل شخص لا يضع كرامته وحريته وكرامة أرضه وحريتها أمام مصلحته الشخصية، وهو كل شخص يرتشي وكل لبناني من دون شرف وعزة نفس ونزاهة وكل لبناني يسير في قطيع ولم يختر طريقه عن قناعة، وكل لبناني يغيّر مبدأه ومواقفه كما يغيّر ثيابه". وارتجل الياس عطالله أمين سر حركة اليسار الديموقراطي كلمة تحدث فيها عن"حزن يشارف حد الموت". وأكد"ان ريشة قلم سمير قصير ستكسر القيد وكل من تعدى على الحرية وستكسر آلة القتل". وقال:"القاتل معروف وواضح ومحدد والقاتل هو الذي يحاول أن يقضي على كل شيء جميل والحرية وكل محاولة النهضة والثقافة النهضوية العربية المنفتحة على بداية رسم أفق جديد". وتابع:"ان من قتله هي آلة القتل نفسها التي حاولت قتل مروان حمادة وطاولت الشهيد رفيق الحريري". وحين قال عطالله"ان آلة القتل الساكنة في بعبدا يجب أن يوضع لها حد"، علت احتجاجات في الكنيسة تطلب منه احترام حرمتها وعدم التطرق الى مواقف سياسية، فاكتفى بالقول:"إن ضمير المعارضة من المفترض أن يفيق"وأكد لعائلة قصير ان خسارة قصير مشتركة. وبعد انتهاء الصلاة تقبل أهل قصير التعازي وانتقل الموكب الى مدافن كنيسة مار متر في الأشرفية حيث ووري جثمانه الثرى على أصوات قرع الأجراس ونثرت الجموع الورود على النعش وتكرر التصفيق خلال وداعه الأخير.