خلال 48 ساعة فقط، تواترت التصريحات الوردية من مسؤولي الإدارة الأميركية بدءاً من الرئيس جورج بوش نفسه في مؤتمره الصحافي الأول خلال ولايته الثانية حين قال إن التقدم متواصل في العراق، وان استراتيجيته هناك وفي أفغانستان مستمرة، بينما خرج نائبه ديك تشيني ليؤكد أن القتال في العراق سيتوقف تدريجياً وأن القوات الأميركية هناك ستنحسر قبل نهاية الولاية الثانية لجورج بوش لكن الوجود العسكري الأميركي المباشر سيستمر إلى ما بعد ذلك. في السياق الزمني نفسه، كان المراقبون يسجلون مقتل نحو سبعمئة عراقي ونحو سبعين من جنود الاحتلال خلال شهر واحد. وبالنسبة لأفغانستان، رفضت إدارة جورج بوش علناً وصراحة طلباً خجولاً من حكومة حميد كرزاي بأن تنسق القوات الأميركية معها مسبقاً عملياتها العسكرية هناك بما جعل كرزاي يوقع إقراراً مشتركا مع جورج بوش يؤكد"استمرار تمتع الولاياتالمتحدة وقوات التحالف بحرية التحرك المطلوبة للقيام بالعمليات العسكرية الملائمة". أما في العراق، مضى الجيش الأميركي في اعتقال زعيم الحزب الإسلامي العراقي محسن عبد الحميد ومصادرة بعض ممتلكاته، وهو نفسه كان من رجال"العهد الجديد"بعد سقوط بغداد وشغل سابقاً منصب رئاسة المجلس الانتقالي. فوجئت الحكومة العراقية المنتخبة بمعايير أميركية باعتقال عبد الحميد ثم الإفراج عنه من دون أسباب، ما دفع رئيس الحكومة إبراهيم الجعفري إلى الشكوى للجمهور من أن"هذه هي المرة الرابعة التي يعتقل فيها زعيم سني"، وبغير استشارة مسبقة لا مع الحكومة ولا مع المجلس الرئاسي. كذلك في السياق الزمني نفسه وبموازاة الأحداث نفسها، كان وزير خارجية العراق يتقدم إلى مجلس الأمن في نيويورك باسم حكومته طالباً تمديد بقاء قوات التحالف - يعنى الوجود العسكري الأميركي في العراق - لاستمرار الحاجة إليه. ورئيس الحكومة العراقية يفسر الأمر بأن الوجود الأميركي أمني تحتمه الضرورة والواقع. بالطبع هذا الواقع يتضمن أيضا سيطرة قوات الاحتلال الأميركي على صادرات البترول العراقي وعدم السماح للحكومة"المنتخبة"بمشاركتها، لا في معرفة الكميات المستخرجة من البترول ولا أيضا في معرفة أين تذهب عوائدها المالية، مع تواتر تقارير - بعضها أميركي - عن المصير المجهول لمئات الملايين من الدولارات التي لا يعرف أحد من سمح بها ولا من تلقاها. بدا التناقض واضحاً ومتكرراً بين الواقع كما هو عليه والواقع كما يجري تسويقه أميركياً داخل أميركا وخارجها. في الداخل الأميركي - وما زلنا في إطار زمني ضيق مدته 48 ساعة - كان مجلس النواب الأميركي يوافق على طلب الإدارة اعتماد تسعة وأربعين بليون دولار إضافية للحرب في العراق، وفى الجلسة نفسها يرفض بغالبية ثلاثمئة صوت مقابل 128 صوتاً مشروعاً يرغم إدارة بوش على وضع جدول زمني لسحب القوات الأميركية من العراق. من هذه الغالبية المسيطرة لصالح الإدارة في مجلس النواب يتأكد لنا من جديد أن أكثر من سنتين من الفشل المدوي في العراق وانهيار جبل الأكاذيب التي جرى استخدامها لتبرير الحرب وتتابع الفضائح مرة بعد مرة عن ممارسات الاحتلال، كل هذا وغيره لم يؤثر في انتصار الإدارة بتسويقها الفشل على أنه نجاح، وإعطائها"المشروع الإمبراطوري"بعداً يعلو على المعارضة، وتجاهلها الكامل لسيل الأدلة على التواطؤ المسبق بين أركان الإدارة والمجمع البترولي العسكري الصناعي. وبين وقت وآخر، تستهلك الإدارة مبررا بعد آخر للحرب، فالمبرر الأول كان أسلحة الدمار الشامل، لكن بعد ثبوت الأكذوبة تحول المبرر إلى وجود تحالف إرهابي مع"القاعدة"، بعد استنفاد الغرض وعشرات التسجيلات الملفقة خرجت حكاية الزرقاوي. وفى النهاية جرى رفع لافتة أفغانستانوالعراق كفصل افتتاحي لإعادة تركيب"الشرق الأوسط الكبير"وصوغه. ثم تناسلت شعارات الديموقراطية والحرية وتمكين المرأة وحقوق الإنسان... الخ. الإدارة الأميركية ومحافظوها الجدد لم يخفوا طموحاتهم منذ اللحظة الأولى، وكتابات بعضهم أكثر صراحة ومباشرة في التعبير عن مشروع إمبراطوري متكامل للتنفيذ عبر عقود متتالية، ما جعل بوش نفسه يقول مرات عدة إن المؤرخين في المستقبل سيكونون أكثر تفهما لدوافعه إلى حرب العراق وغزو أفغانستان. مع ذلك، بدا مع الوقت أن سياسة"نغزو أولا ثم نبرر بعد ذلك"تجد غطاء كافياً لها. ليس فقط من صقور اليمين الأميركي المحافظ ولكن أيضاً من مراكزهم البحثية التي توفر لهم الذخيرة الدعائية والإعلامية. ذخيرة توفرها الاعتمادات المالية المتزايدة أميركيا لحساب"الديبلوماسية العامة"التي تباشرها الإدارة - كتعبير تجميلي بديل عن الدعاية الصريحة - كما توفرها أيضا مراكز بحثية ترتدى قبعة التنظير وتفتعل الحياد في توصيف ما يجري. أحد العلامات البارزة في هذا التطور هو التقرير الذي أصدره أخيراً المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية - ومقره لندن - مقرراً فيه أن الشرق الأوسط أصبح أكثر أمناً مما كان عليه قبل عام بسبب تطورات"إيجابية"في العراق وعلى مستوى الصراع العربي الإسرائيلي. المعهد المذكور كان أصلا من مروجي مشروع حرب العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل، ما كان يصب في خانة أصحاب المشروع الإمبراطوري الأميركي وتابعهم رئيس وزراء بريطانيا. الآن - وأيضا تحت غطاء التظاهر بالموضوعية - يقرر المعهد في تقرير من 384 صفحة أن"التحسن في المناخ الإستراتيجي يعود إلى عوامل بينها وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وسياسة الرئيس جورج بوش الخارجية التي تؤتي ثمارها"، مضيفاً أن الدعوة إلى انتخابات تعددية في مصر و"الانتفاضة الشعبية ضد سورية في لبنان"هي أمثلة على نجاح السياسات الأميركية. لهجة تهنئة الذات هذه هي نفسها التي استخدمها بوش في خطاب أخير له في أكاديمية القوات البحرية وهو يشرح استراتيجيته للنصر في القرن الحادي والعشرين لمواجهة أي تحدٍ وأي عدو. قال إن مسيرة الحرية مستمرة في سائر أنحاء العالم - بفضل سياساته - وإن الثمانية عشر شهراً الماضية شهدت ثورة وردية في جورجيا وأخرى برتقالية في أوكرانيا ثم قرمزية في العراق وزنبقية في قيرغيزستان وصنوبرية في لبنان. ووصف تلك الثورات بأنها مجرد بدايات، موضحاً أن الشرق الأوسط وآسيا الوسطى يشهدان نهضة جيل جديد يتحرق شوقاً إلى الحرية. وأكد أنهم سينالونها، وأن أميركا تتفق معهم لأنها تؤمن بأن الحرية هي القوة الوحيدة التي يمكن أن تكبح جماح الطغاة والإرهابيين. اللهجة الخطابية الزاعقة في خطاب بوش ربما يفسرها البعض بأنها لزوم حاجته إلى صب الحماس في عروق الدفعة الجديدة من خريجي أكاديمية القوات البحرية في ولاية ميريلاند، فهم سيصبحون جزءاً عضوياً من الآلة العسكرية الأميركية التي هي بدورها في صلب العقيدة الإستراتيجية المعلنة منذ 17 أيلول سبتمبر 2002. استراتيجية خلاصتها أن أميركا من الآن فصاعداً لن تسمح بوجود دولة أو مجموعة من الدول منافسة لها استراتيجياً ودولياً، وأنها في سبيل ذلك تعطي لنفسها الحق في شن الحروب الاستباقية والوقائية في أي مكان من العالم. الفارق بين ما مضى والآن هو في تراجع فكرة الدولة التبشيرية من ناحية، وتجذر فكرة احترام سيادة الدول داخل أراضيها من ناحية أخرى. ومن تلك الخلاصة المعجونة بالكثير من الدماء توافق المجتمع الدولي في سنة 1945 على ميثاق الأممالمتحدة تعبيراً عن الشرعية الدولية الجديدة. هذا يفسر الانقلاب الحتمي من المشروع الإمبراطوري الأميركي الجديد على الأممالمتحدة وميثاقها. وسواء بدأنا بالعراق أو السودان أو ليبيا أو لبنان أو سورية أو إيران، فإن العقوبات ضد تلك الدول بدأت أصلاً بقرارات من الكونغرس الأميركي. أما إذا أضفنا قوانين الكونغرس للرقابة عالمياً على الحريات الدينية وانتهينا إلى حرية التجارة فأن قائمة الدول المستهدفة تتسع للعشرات، كلها تريد أميركا إخضاعها لوصايتها، حتى من غير غزو أو احتلال. في اللحظة الراهنة يتعثر المشروع الإمبراطوري الأميركي ويتعرض للمقاومة في كل بقاع العالم. لكن في اللحظة الراهنة أيضا لا يجد أصحاب المشروع ما يهنئون أنفسهم عليه إلا في منطقتنا نحن. عندنا فقط نجد حكومات أكثر عجزا من التفكير - مجرد التفكير - في بدائل عن الرضوخ للإملاءات الأميركية، خصوصا وهي تمس في هذه المرة جوهر مصالح عشرات الملايين من المواطنين. الناس - بالطبيعة - لا تأكل أيديولوجيا. الناس - بالطبيعة - لا تبدأ صباحها بالصداقة مع أميركا أو العداء لها. الناس تبدأ بالطعام وتريد تعليماً وتحتاج وظائف وتسعى إلى حياة أفضل وتريد لأبنائها حياة صحية تعتمد على الذات وتنتج لنفسها بأكثر مما تستورده من الآخرين. هكذا شقت أميركا لنفسها الطريق لتتحول في أقل من مئة وخمسين عاماً من آخر الصفوف في المسرح الدولي إلى أولها. وفيما أتذكر فإن مؤرخاً أميركياً شهيراً كان هو الذي صك تعبير أن"أميركا في علاقتها اليوم مع الدول الضعيفة والفقيرة تشبه صاحبة بيت الدعارة التي أصبحت - بعد اعتزال الرذيلة - تستمتع بنصح الآخرين بالفضيلة". في الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس وزراء مصر إلى أميركا ربما نفترض أنه ذهب يسعى إلى الفضيلة. هناك أيضاً من يفترضون أن ذهاب رئيس الحكومة ووزرائه الاقتصاديين تحديداً ربما يحسب لمصر، فهي بعد طول تقريع سياسي من الرئيس الأميركي ومساعديه تريد أن تقول للإدارة الأميركية: هاتوا من الآخر. في مضمون الزيارة تبين أن الموسيقى التصويرية هي بالأساس التعجيل ببيع ركائز الاقتصاد المصري. وجرى تبشير الإدارة الأميركية بأن معدلات البيع تضاعفت أربع مرات خلال شهور قليلة، والبيع في هذه المرة يمتد حتى إلى البنوك العامة الرئيسية في مصر التي يمتلك ودائعها المواطنون وليس الحكومة المصرية. بل ان استخلاص بعض تلك البنوك أصلاً من القوى المسيطرة الأجنبية استغرق من كفاح المصريين ثلاثة أجيال على الأقل. أما بعد عودة رئيس الوزراء المصري من زيارته"الناجحة"أميركياً، أسهب وزير مهم في حكومته في شرح المغزى من هذا كله بأن تلك الأجندة الإصلاحية الجديدة هي أشبه بالانقلاب أو البريسترويكا"التي انتهت معها الحرب الباردة وانتصار مفاهيم السوق المفتوحة والحرية الاقتصادية". بريسترويكا؟ العالم كله يعرف أن ميخائيل غورباتشوف هو الذي صك هذا التعبير عنواناً لسياساته الجديدة"الإصلاحية"في الاتحاد السوفياتي. وبقي لغورباتشوف من البريسترويكا وسنينها ثلاثة أمور. هو فاز بجائزة نوبل بتوصية أميركية. هو حصل لنفسه - من بين أشياء أخرى - على مليوني دولار مكافأة عن قيامه بدور تسويقي لحساب إحدى شركات فطائر البيتزا الإيطالية. هو حينما نزل إلى الشارع الروسي للمرة الأولى بعد كل ما جرى مرشحاً نفسه رئيسا لروسيا الجديدة، شقت الطريق إليه سيدة عجوز وصفعته أمام الكاميرات فلم ينزل إلى الشارع من بعدها. التاريخ قد تلخصه حكايات. لكن التاريخ حقائق. والحقيقة الراهنة هي أن المشروع الإمبراطوري الأميركي في لحظة تهنئة للذات. لكن اللحظة ذاتها مشوشة. وجزء من تشوشها هو في اعتماد أميركا على ضعف الآخرين - ومواقع فسادهم - بأكثر من اعتمادها على قوتها هي. كاتب مصري.