فى الجولة الأخيرة التى قام بها كولن باول وزير الخارجية الأميركي تعددت اهتماماته التفاوضية في الدول الست التي زارها. فلسطين هي الأقل. العراق هي الأكثر. وفي ما بينهما السودان. والمحطة التى تعنينا هنا هي التى بدأ بها الوزير الأميركي. انها المجر. فتلك الدولة الصغيرة المسالمة في أوروبا الشرقية وسكانها أقل من عشرة ملايين وجدت نفسها على غير العادة محل تركيز أميركي لم يكن وارداً بالمرة قبل 18 شهراً. السبب هو العراق، فالمجر استجابت للإلحاح الأميركي وساهمت بثلاثمئة جندي يتمركزون حالياً جنوب بغداد بقيادة بولندية. فى حينه جرت تلك المساهمة المجرية المتواضعة في ظل معارضة شعبية. المعارضة تزايدت أخيراً وتضغط على الحكومة بشدة للانسحاب من العراق. من أجل هذا - وهذا فقط - ذهب وزير الخارجية الأميركي الى المجر محذراً من أن"الوضع الراهن في العراق لايحتمل التخاذل ويتطلب صمود القوات متعددة الجنسيات". هكذا أيضاً تحدث الوزير الأميركي عبر الصحف المجرية والتلفزيون المجرى مناشداً المجر الإبقاء على جنودها في العراق. فى مرحلة سابقة مبكرة من من الغزوة الأميركية للعراق كان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي يستمتع علناً بتوبيخ"أوروبا القديمة"التي راحت عليها بمعارضتها غزو العراق لأن المستقبل الأميركي من وقتها فصاعداً هو لأوروبا"الجديدة"المتحمسة للمشروع الأمبراطوري الأميركي وللمساهمة فيه. في حينه أيضاً كرر رامسفيلد أن أميركا لم تعد في حاجة الى الألتزام بأي تحالف ثابت - كمنظمة حلف شمال الأطلسي أو غيرها لأنها في سياستها الجديدة ستعتمد على تحالفات بالقطاعي وليس بالجملة. كل مرحلة جديدة من المشروع الأميركي ستشكل لها أميركا التحالف اللازم لها. فى الحرب على أفغانستان شكلت أميركا تحالفاً وبمجرد اكتمال الغزو انقلبت - أميركا هي التي انقلبت - على بعض أعضائه. في الحرب على العراق شكلت أميركا تحالفاً آخر قال رامسفيلد انه يضم 32 دولة. باستثناء بريطانيا وايطاليا واسبانياواستراليا واليابان وكوريا الجنوبية كان أعضاء ذلك التحالف صغاراً تماماً بمساهماتهم العسكرية. بعضهم حتى رفض أن يسميها عسكرية متعللاً بأنها لأغراض انسانية ابتغاء ثواب الآخرة وليس بترول الدنيا. لكن مع اتضاح المشروع الأمبراطوري الأميركي في أرض الواقع وانكشاف زيف كل الأسباب التى أعلنتها أميركا رسمياً لغزو العراق بدأ أعضاء التحالف يعيدون حساباتهم. هناك دول سحبت قواتها بالكامل اسبانيا، هندوراس، الدومينيكان، الفيلبين ودول في الطريق الى ذلك النروج، نيوزيلندا، تايلاند، هولندا ودول تفكر في ذلك المجر، بولندا ودول اضطر الرئيس الأميركي جورج بوش بنفسه الى مناشدة رئيسها ابقاء قواتها كحالة السلفادور ولها في العراق 380 جندياً أو ناشدها وزير الخارجية الأميركي: كليتوانيا 150 جندياً وسنغافورة 33 جندياً ومولدافيا 12 جندياً... الخ. القوات الأميركية في العراق 140 ألف جندي يساندهم في الكويت 30 ألف جندي بخلاف الدعم الأضافي جواً وبحراً في نقاط تمركز أخرى في الخليج. مع ذلك تسمي أميركا مشروعها الاحتلالي في العراق تحالفاً أحياناً أو قوات متعددة الجنسية بقيادتها أحياناً أخرى. في كل الحالات لم يحظ قرار المشاركة تحت القيادة الأميركية في العراق بأي موافقة شعبية في أي دولة بما في ذلك بريطانيا. والدول التي سحبت قواتها كان واضحاً من وجوه جنودها كم هم سعداء بعودتهم الى بلادهم خروجاً من مشروع امبراطورى لا ناقة لهم فيه ولا جمل. من هذا التطور نشرت جريدة"واشنطون بوست"الأميركية أخيراً أن ادارة الرئيس جورج بوش أصبحت تحتفظ بجدول وضعت عليه قائمة بالدول المشاركة لمشروعها في العراق بألوان مختلفة: الأحمر هو للدول التى انسحبت، والأصفر للدول التى تفكر في الانسحاب، والأخضر للدول التي لا تزال هناك وتلح عليها الادارة باستمرار كي تبقى. ومن الآن حتى انتخابات الرئاسة الأميركية في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر المقبل تراوح عيون الادارة يومياً ما بين الأصفر والأخضر. فبعد انفراط نصف أعضاء"التحالف"لا تريد الادارة مواجهة الناخب الأميركي وهى عارية تماماً ومكشوفة دولياً الى درجة العزلة. نتوقف هنا عند ثلاث دول تحديداً - واحدة من كل لون - في الجدول المذكور. اسبانيا بعد أن أصبحت في الأحمر. استراليا وهي حاليا في الأصفر. وبريطانيا باعتبارها في الأخضر، والأخضر الغامق اذا تيسر. نتذكر الانتخابات الأخيرة في اسبانيا والقرار الأول الذى اتخذه خوسيه لويس ثاباتيرو رئيس الحزب الاشتراكي المعارض الفائز في الانتخابات بسحب القوات الأسبانية من العراق. القرار بحد ذاته لم يكن مفاجئاً فهو معلن مسبقاً من الحزب الاشتراكي ضمن برنامجه الأنتخابى. ثم ان تسعين في المئة من الشعب الأسباني كان يعارض من الأصل الغزوة الأميركية للعراق. ومع وقوع تفجيرات ارهابية في مدريد قبل الانتخابات بثلاثة أيام حاولت الحكومة في السلطة تضليل الشعب بشأن ملابسات ما جرى. لكن الشعب كان أكثر وعياً وخرج أحد عشر مليون اسباني الى الشوارع متظاهرين ضد الإرهاب... لكنهم في الوقت نفسه - ومعهم الشعب كله - مصممون أيضاً على سحب القوات الأسبانية من العراق. سقوط الحكومة الأسبانية المؤيدة للمشروع الامبراطوري الأميركي وفوز الحزب الاشتراكي المعارض بالسلطة واعلان رئيسه تنفيذ قرار الانسحاب من العراق فتح عليه وكل اسبانيا مدفعية"المحافظين الجدد"الحاكمين في واشنطن وتوابعهم في لندن. الحملة امتدت أيضاً لتتهم الشعب الأسباني كله بالجبن وتوبخ هذا الشعب لأنه قام"باسقاط الحكومة القديمة والمجيء محلها بحكومة تكون سياستها على هوى منظمة القاعدة ". ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي خرج علناً ليتهم اسبانيا بالتخلي عن الحرب ضد الإرهاب وانها اذا تمسكت بسحب قواتها من العراق فعلاً فسيكون هذا استرضاء للإرهابيين المتسببين في انفجارات مدريد. الحكومة الجديدة في اسبانيا تمسكت وتم ابلاغ قائد القوة الأسبانية في العراق ليشرع فعلاً في الانسحاب. مع ذلك، وبرغم كل تلك الملابسات، تبين لاحقاً أن قائد القوات الأميركية في العراق طلب من القوة الأسبانية شن هجوم عسكري على مدينة النجف العراقية بحجة أنها أصبحت معقلاً للإرهاب. القائد الأسباني استغرب تماماً ورفض الطلب الأميركي في التو واللحظة مدعوماً من حكومته في مدريد. لكن الملفت هنا هو السؤال: لماذا يوجد حرص أميركي على اسالة دماء الأسبان في العراق مع المعرفة مسبقاً بأنهم منسحبون بالفعل؟ فى محطتنا التعسفية الثانية هنا نأخذ استراليا كجزء من القائمة الصفراء حسب الجدول الأميركي. استراليا أيضاً، وبرغم علاقة أمنية وثيقة للغاية مع الولايات المتحدة ودور أميركي لها بأن تكون الشرطي المساعد في جوارها الآسيوي. وحكومة محافظة يمينية في السلطة واجهت سخطاً شعبياً داخلياً ضد المشاركة بقوات عسكرية في العراق. زعيم حزب العمال المعارض مارك لانمس طالب بسحب قوات بلاده من العراق مقرراً أنه سيفعل هذا بالضبط في حالة فوز حزبه في الانتخابات المقرر اجراؤها في شهر تشرين الأول أكتوبر المقبل. هل تترك ادارة جورج بوش العملية الديموقراطية في استراليا تمضي في مجراها اذن. محترمة الخيار الذي سيراه الناخب الأسترالي؟ أبداً. لقد تلاحقت التهديدات والإنذارات على استراليا من أعلى المسؤولين الأميركيين ابتداء من وزيري الدفاع والخارجية الى مساعديهما الى مسؤولين آخرين في البيت الأبيض ومكتب نائب الرئيس. الضغوط الأميركية لاحقت بشدة زعيم حزب العمال المعارض هذا ليحذف من برنامجه الانتخابي مسألة الانسحاب من العراق. وإلا فإن العلاقات الأميركية مع استراليا ستعاني بشدة. تهديدات جعلت حتى بيل كلينتون الرئيس الأميركي السابق ينتقدها مقترحاً على ادارة جورج بوش استخدام قاموس الإغراء بدل التهديد. في كل هذا نتكلم عن ألفي جندي التزمت الحكومة الأسترالية إرسالهم الى العراق. وازاء المعارضة الشعبية المتزايدة اكتفت بإرسال 880 جندياً لم يدخل منهم العراق سوى 250. ادارة جورج بوش أبقت استراليا في اللون الأصفر لكنها ترفض لها بشدة اللون الأحمر، ان لم يكن الدخول في الأخضر. أحد الأسئلة المحيرة هنا هو: لماذا تصر حكومة استراليا الحالية على المشاركة في المشروع الأمبراطوري الأميركي رغم كل المعارضة الداخلية ضدها؟ الأجابة الوحيدة الموحية جاءت أخيراً بلسان الكسندر داونر وزير خارجية استراليا، إذ قال ان الحرب على الإرهاب التى أعلنتها أميركا تحت قيادتها يمكن أن"تستغرق الوقت الذي استغرقته الحرب الباردة. وأعتقد أن هذا أمر مؤكد". يعني ان مفهوم الوزير الأسترالي لجدول الأعمال الأميركي هو انه بضخامة وامتداد مشروعها للحرب الباردة، فيصبح أفقه الزمني اذن أربعين سنة قادمة على الأقل. بالتالي لا تريد استراليا أن يفوتها نصيب من الغنيمة. الوزير الأسترالي هنا يستخدم أيضاً قاموس وبرنامج"المحافظين الجدد"الحاكمين في واشنطن، مع ان بلاده موضوعة أميركياً في الأصفر. ننتقل الى الأخضر، بل الأخضر الغامق فعلاً. ننتقل الى بريطانيا... فمن لحظة البداية، وحتى من قبلها، كان توني بلير رئيس وزراء بريطانيا هو الذي اختار لنفسه أن يصبح مندوب تسويق مشروع"المحافظين الجدد"في واشنطن. مع انه في السلطة باسم حزب العمال وليس المحافظين. لا يهم. المعارضة الشعبية للحرب، بل في حزب العمال ذاته، كانت من اللحظة الأولى غاضبة وهادرة. لا يهم. ينتكس الغزو الأميركي للعراق في أرض الواقع. لا يهم. أوروبا الحقيقية، بل والعالم كله، ضد المشروع الأميركي. لا يهم. وزراء في حكومته يستقيلون احتجاجاً على أساليبه التضليلية. لا يهم. سمعة بريطانيا في الشرق الأوسط بل في العالم أصبحت في الحضيض. لا يهم. ينكشف علناً تكليفه لاستخباراته بالتجسس على الأمين العام للأمم المتحدة ودول أعضاء في مجلس الأمن لحساب أميركا. لا يهم. اذن... ما هو المهم؟ فى كل مرافعات تونى بلير وفذلكاته دفاعاً عن مشروع"المحافظين الجدد"الأمبراطوري في واشنطن لم أجد أكثر تعبيراً عن رؤيته من خطاب كان ألقاه في الخامس من اذار مارس الماضي ولم يحظ في حينه أو بعده باهتمام كبير. فى ذلك الخطاب قال تونى بلير ان"التطرف الإسلامي"هو الآن الخطر الأمني الذي يشمل العالم بأسره وان الحرب في العراق كانت ضرورية لمنع الإرهابيين الإسلاميين من التوحد في قضية واحدة مع نظام عراقي متسلط ومجهز بأسلحة دمار شامل". بتعبير خبير بريطاني متمرس فإن تشخيصاً كهذا ربما يصلح كنقطة بداية في فيلم سينمائي تنتجه هوليود، وليس لمسؤول يحترم عقول سامعيه. فلا أسلحة دمار شامل كانت في العراق ولا كان هناك توحد في أي وقت بين مهووس بالسلطة في العراق ومهووس ديني في أفغانستان. وفى نهاية المطاف أصبحت فرص الإرهاب بعد غزو العراق أكبر وليست أقل. الأكثر أهمية في مهمة تونى بلير الترويجية تلك لمصلحة"المحافظين الجدد"كان مطالبته بتعديل ميثاق الأممالمتحدة لألغاء قيوده على منع التدخل الخارجي المسلح في شؤون الدول الأخرى. مستر بلير في ذلك الخطاب يفصح عن غرامه المفاجىء بحقوق الأنسان والديموقراطية ليس بحد ذاتهما وانما كأساس جديد لكي يصبح ممكناً ومشروعاً دولياً اسقاط نظم سياسية في دول مستقلة حباً في الأنسانية واكراماً لفقراء افريقيا وتعميراً للشرق الأوسط وتخليصاً للعالم من نظمه المستبدة. المتحدث هنا - للتذكير - ليس بابا الفاتيكان ولا الراحلة الأم تيريزا. انه توني بلير. وخلاصة ما يروج له هو عالم جديد يصبح مجرد غابة كبيرة يسود فيها الأقوى عسكرياً لمجرد أنه الأقوى عسكرياً. فإذا كان الأمر كذلك حقاً فلماذا الفذلكة؟ بلاها الأممالمتحدة. كل دولة بعضلاتها. وعضلات توني بلير هي أميركا. هي تحديداً"المحافظون الجدد"من بين كل أميركا. حتى تلك الفذلكة من توني بلير كانت بريطانيا مصنفة أميركياً في الأخضر. انما توني بلير هنا يصبح في الأزرق. انه بالضبط لون"المحافظين الجدد". هو أيضاً لون الحواة وقطاع الطرق والمحتالين. * كاتب مصري.