-1- عبدالقادر عقيل، كاتب من البحرين له حضوره القصصي والروائي والشعري، واهتماماته بأدب الطفل العربي. عرفته منذ محاولاته الأولى وتابعته وهو يبحث عن الأبهى والأجمل في التجربة الإبداعية شعراً - بطريقته - ونثراً - بطريقته ايضاً - يسعى منذ البداية الى ان يتحرر من صوت الآخر وأسلوبه. كتب القصة القصيرة والنص المستعصي على التنميط والتصنيف. ومن اعماله المنشورة:"استغاثات في العالم الوحشي"مجموعة قصصية 1979،"مساء البلورات"مجموعة قصصية عام 1985، و"رؤى الجالس على عرش قدامه زجاج شبه البلور"نص عام 1987. و"الشوراق"نص 1991. ثم"الشوكران"مجموعة قصصية 1994. وأخيراً"كف مريم"1997. وهذا العمل الأخير هو موضوع هذه القراءة التي تأخر موعد نشرها لا موعد كتابتها فقد انجزتها في ايلول سبتمبر 1997، ووضعتها في قلب الكتاب في انتظار نشرها، ولصغر حجمه اختفى وغاص بين عشرات، بل مئات الكتب، وبالصدفة تم العثور عليه اخيراً وما أزال محتفظاً بهذه القراءة التي حين اعدتها وأعدت قراءة النص شعرت انني احتفظ بالانطباع نفسه وما أثارته في نفسي قراءته في المرة الأولى. -2- الكتاب في قطع بحجم الكف وفي خمس وثمانين صفحة تقرأه في المرة الأولى فلا تشبع منه. وتشعر انك مشدود إليه وراغب في ان تعيد قراءته ثانية وثالثة... وفي اثناء هذه القراءات تسائل نفسك هل"كف مريم"لعبدالقادر عقيل قصة ام فصل من سيرة ذاتية، وربما جاء الجواب ليقنعك بأنه لا فارق بين القصة والسيرة الذاتية، فالأولى سيرة لشخص او لمجموعة شخوص نعرفهم او نتخيلهم، والسيرة قصة نرسم من خلالها ملامح لفصول من حياتنا، وإن كان لهذه الأخيرة طابعها الحميم نتيجة التصاقها المباشر والعميق بالذات فضلاً عن انه ما من مبدع إلا ويعيش داخل نصه محتفياً بذاته او مخفياً لأثرها. وعلى أي حال فالكتاب موضوع هذه الإشارات سيرة ذاتية مثقلة بالآلام والمواجع لطفل عربي بدأت ذاكرته تتفتح سياسياً على حرب الخامس من حزيران يونيو 1967، وما ارتبط بها من ذبول عام، وانكسار داخلي شامل. راوي القصة او السيرة طفل، وفي احسن الأحوال فتى في مطالع العمر تقاسمه البطولة اخته العمياء التي فقدت بصرها عند فقدانها لشقيقها التوأم الذي مات بعد الولادة. لم تكن مريم -وهذا هو اسمها الذي يؤلف مع الكف اسم القصة... السيرة - ترى شيئاً إلا من خلال عيني اخيها الذي اعطاها كل حبه وحنانه. وكان لا يتردد عن الإجابة عن كل اسئلتها وهي كثيرة. يلعب الخيال دوره المدهش في الربط بين مصير هذه الطفلة العمياء وشقيقها الميت في الواقع، والحي رمزياً في صورة الأحداث التي انتهت بهزيمة العرب في الخامس من حزيران 1967. ومن خلال التقديم الأسطوري الفريد والمثير والموحش والغامض الذي يتردد في ثنايا العمل بمعانيه نفسها حيناً، وبألفاظه ومعانيه حيناً آخر، يتهيأ القارئ لاستقبال الحدث الكبير المخيب للآمال وهو الهزيمة. -3- تذهلنا البداية بفرحها وتوهجها"مدينة غريبة تسودها اجواء احتفالية: الناس في الشوارع يضحكون ويرقصون مبتهجين... النساء يزغردن ويوزعن على المارة خبزاً احمر وحلوى ساخنة... البيوت مترفة... الشوارع مزينة... وجوه الناس ملونة..."ص7 كما تذهلنا النقلة من هذه الفردوسية الى مناخ مناقض آخر:"كثبان ثلوج لا نهاية لها تغطي الآماد كلها. لا شيء هنا سوى البياض بينما السماء تبدو رمادية، كئيبة وطيئة جداً". بين هذين المشهدين المتناقضين، وعلى مبعدة من الراوي"ثلاث نساء متشحات بعباءات سوداء، جالسات ملتصقات ببعضهن البعض... كن ينتحبن بحرقة، ويهلن الثلج على رؤوسهن، بالقرب منهن رجل يحفر في الثلج وهو يئن ويتأوه"ص9. يزداد انذهالنا عندما يقترب الراوي اكثر من المشهد الكئيب:"اقتربُ من النساء، نواحهن كان مؤثراً لا ألمح وجوههن. اقترب من الرجل يشعر بدنوي منه فيلتفت إليّ والعبرات تخنقه فيكون هذا الرجل ابي، لكنه كان حزيناً، مسحوق النفس، يحمل بيده زجاجة يشع منها نور قوي. يرفع ابي الزجاجة، فأرى بداخلها جنيناً ميتاً يشبهني يقول بصوت مخنوق متوجع"فقدناك قبل ان تعرف الدنيا". وما ان تكلم حتى فاضت الدموع من عينيه، يتوقف عن البكاء ويأخذني من يدي الى النساء الثلاث. يقول وهو يشير إليهن. هذه جدتك، وهذه امك، وهذه اختك"ص10. وكما سبقت الإشارة، سيتردد هذا المشهد الأسطوري الحزين اكثر من مرة وبألفاظ مختلفة، حين يعود إليه الراوي - ولا اقول الكاتب - ربما ليزيد من مأسوية الواقع بهذه الجمل الحزينة المكثفة المغمورة بما هو اعذب من الشعر، وأكثر تأثيراً في متلقيه الذي يشاطره مخاوفه وأحلامه. -4- كان في إمكان هذه القصة/ السيرة، ان تتسع لمئات الصفحات لكثرة ما اختزنه متنها المكثف من احداث وشخصيات وحوارات ومدن وشوارع وأحياء، إلا ان الكاتب آثر التكثيف الصارم على الاسترسال والاستطرادات، ولعله نجح في الإفادة من العنوان وهو"كف مريم"ليختزل المحتوى في هذا القدر من الكلام، وفي هذا القدر المحدود من المساحة، وهي تقنية شعرية اكثر منها روائية، فالشعر وحده يكره التداعيات المفتوحة واستحضار التفاصيل، لكن عبدالقادر عقيل لم يخسر شيئاً حين التزم بوعي فني، هذه التقنية التي تخدم وقت القارئ وذكاءه وتعطيه مساحة للتأمل وربما الإضافة، فقد مضى زمن الكتابة الأدبية التي تقاوم حذف العناصر الجانبية وتسعى الى استبقائها على رغم ما يشوبها من ترهل وإفساد للتصور والإيحاء.