التغيير الذي شمل وزارة الثقافة والإعلام في السعودية أخيراً، ممثلاً في مجيء وزير جديد، فتح باب الاحتمالات والآمال مرة أخرى، وزاد الترقب أكثر من أي وقت مضى، لما سيفصح عنه الوزير الجديد من قرارات تخص الشأن الثقافي. لا تشبه الحال التي يعيشها المثقف السعودي، أي حال أخرى يشهدها المثقف في الوطن العربي، ولا يمكن وصف الوضع الراهن للمؤسسات الثقافية، بما هي عليه من تشتت إداري، ونمطية في الأداء، وتجاهل للأسماء الأدبية الفاعلة وتهميشها. وليس من المبالغة القول إن ما من كلمة تستطيع اليوم وصف صورة الواقع الثقافي في السعودية، هذه الصورة التي دفعت شريحة كبيرة من المثقفين، يأساً من أي إصلاح ثقافي، إلى الانسحاب من الحياة الثقافية، والعيش في عزلة صارمة، بدلاً من الانخراط في عمل لا طائل من ورائه، أو تكرار المطالب نفسها. يصعب في نظر بعض المهتمين فهم ما يحصل ثقافياً، على صعيد عدم وجود مؤسسة ثقافية حقيقية، تنظر إلى العمل الثقافي بصفته استثماراً لعقل المبدع، وما ينتجه من فكر وأدب وفنون، وتنطلق من تخطيط ومن وضوح في الهدف، وتأخذ على عاتقها إشاعة مناخ ثقافي يستوعب الاختلاف وتعددية الرأي. ويتعقد الأمر، عند مقارنة المثقفين واقعهم بواقع مثقفي بعض دول الجوار، وهي دول لا تقارن بالسعودية من نواح عدة، ولكن يوجد فيها أجواء ثقافية، وإن لم تتوافر على أسماء مبدعة كثيرة تستثمر وتفيد من هذا المناخ. في حين أن ما يميز المشهد الثقافي السعودي، أنه يزخر بأسماء مميزة في المجالات الأدبية والثقافية، وكثير منها صار معروفاً على نطاق واسع، وتسهم في شكل لافت في رفد الحركة الأدبية في بعدها العربي. غير أن ما تفتقده هذه الأسماء هو المناخ الثقافي الحيوي. فلا جائزة تقديرية مرموقة تتوج جهود الأدباء الذين قدموا إبداعاً مميزاً طوال العقود المنصرمة، أو تشجيعية تخلق الحماسة في أوساط المبدعين الجدد، ليقدموا أفضل ما لديهم. ولا توجد أيضاً سلسلة إصدارات، تنشر النتاج الأدبي والثقافي اللافت في تنوعه وحداثته، وتقدمه في شكل طباعي أنيق، وتعمل على إيصاله إلى المهتمين محلياً وعربياً، كما يحصل مثلاً في البحرين مشروع النشر المشترك بين المجلس الوطني للثقافة والمؤسسة العربية للنشر. ظل الواقع الثقافي في حال ركود سنين طويلة. وكان لبعض الأمور أن تخض هذه الحال، وتخرج المثقف السعودي نسبياً من عزلته ويأسه، سعياً إلى إسماع صوته لمسؤول جديد أو جهة يعتقد بأنها جديرة أن تنهض بعمل ثقافي مميز. ومن هذه الأمور انطلاق وزارة باسم الثقافة للمرة الأولى، في أيار مايو 2003، وقد انتعش الأمل من جديد في المشهد الثقافي السعودي، وهو يرى واحداً من مطالبه التي ظلت مدة طويلة بعيدة المنال، يتحقق دفعة واحدة، لكن الوزارة الوليدة أمضت وقتاً غير قصير من دون إحراز تقدم، حتى جاء ملتقى المثقفين السعوديين الأول، كخطوة عملية تقوم بها، فحشدت أعداداً كبيرة من المثقفين، الذين ناقشوا على مدى ثلاثة أيام بين 25 و27 أيلول/ سبتمبر 2004 القضايا الثقافية كافة، وفي جو تسوده الحرية، ثم كانت قائمة التوصيات التي خرج بها المشاركون. غير أنه ومنذ ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة، لم تتحول تلك التوصيات أو على الأقل بعض بنودها واقعاً فعلياً، يسعد به المثقف السعودي ويتفاعل معه، وبالتالي انسحب المثقفون مرة أخرى يأساً من أي بادرة إيجابية، يمكن أن تند عن المؤسسة الثقافية الرسمية، في وضعيتها الراهنة. شخصية مناسبة في وقت مناسب إلاّ أن تعيين وزير جديد للثقافة بدا، بحسب شريحة واسعة من المثقفين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية، أمراً جديراً بالإهتمام، ويأتي في وقت مناسب، خصوصاً بعد الأحداث التي مرت بها السعودية، وانعكست في شكل أو آخر على المشهد الثقافي، وكان من تجلياتها ضرورة الحوار وانفتاح التيارات والأطراف المختلفي المشارب بعضهم على بعض. وإذا كان هناك مثقفون لم يأبهوا في ما مضى بالتغييرات التي حصلت، كانطلاقة وزارة الثقافة والملتقى الأول للمثقفين، فإن هؤلاء أو على الأقل معظمهم، وجدوا أنفسهم في صدد شخصية تستحق فعلاً أن تجدد المطالب أمامها. ولعل السبب في الترحيب الكبير بالوزير الجديد إياد مدني، أنه ليس مجرد وزير يأتي ليملأ كرسي الوزارة، بل لأن عدداً من الإنجازات الثقافية المهمة ارتبط باسمه، ومنها: تطوير مجلة"الحج والعمرة"، عندما كان وزيراً للحج، وهي مجلة عريقة، تأسست منذ ما يقارب 60 عاماً، لكن الوزير مدني صاحب الفضل في الطابع الحديث المتنوع الذي يسم مواد المجلة، في أعدادها التي صدرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وتلك الرؤية الحضارية الجديدة التي تمثلها، وفي ما كرست المجلة من مفهوم جديد لأدبيات الحج. ولم يتوقع أحد أن يكتب في المجلة، التي يترأس تحريرها الناقد الشاب حسين بافقيه، وهي من الحالات النادرة التي يتقلد فيها مثقف عُرف بوعيه الحداثي مثل هذا الموقع، أسماء مثل: تركي الحمد وحسن حنفي وجمال الغيطاني ورضوان السيد وأحمد إبراهيم الفقيه ويوسف الفقيد، ونقولا زيادة وأبو يعرب المرزوقي وعبد الجبار الرفاعي وحسام الخطيب وسعاد الحكيم وفاطمة عبدالوهاب وسعيد السريحي ومحمد الرميحي ووجيه كوثراني وتركي علي الربيعو والسيد ولد أباه وسواهم. وإذا كان الوزير مدني لم يصدر كتباً، عدا كتاب واحد بالإنكليزية، إلا أن له عدداً من الدراسات والمقالات، وهو يعد من طراز فريد من المثقفين الكبار، بثقافته الواسعة ورؤيته العميقة الرصينة وبأفكاره النيرة، إلى جانب هدوئه وميله إلى عدم الحديث بكثرة الى وسائل الإعلام، بل انه أبدى في إطلالته الأولى كوزير للثقافة والإعلام اختلافه مع وزارء الإعلام، وأظهر كرهاً للبيروقراطية التي تطبع أداء هذه الوزارات. كل هذه الأمور جعلت المثقفين يلحون في مطالبهم أكثر من أي وقت مضى، إيماناً بأن الرجل المناسب جاء وسيعالج الكثير مما اعترى الجسد الثقافي، وأوهن عزيمة المثقف السعودي، ودفعه إلى التقوقع وعدم المبادرة. فشهدت الأيام المنصرمة لقاءات عدة، رتبها مثقف أو أكثر مع الوزير، ميزتها الشفافية في طرح الآراء والاقتراحات والنقاش حولها، إضافة إلى الاستطلاعات الصحافية، وهي كثيرة، التي رصدت ردود فعل المثقفين، وقدمت طموحاتهم من جديد. واعتبر الناقد سعد البازعي أن مجيء الوزير الجديد"بادرة تبشر بالكثير"، وقال إنه شخص معني بالثقافة:"وان مجيئه محل ترحاب من جميع المهتمين في الوسط الثقافي، وشخصياً أتوقع أن يكون لوزارة الثقافة دور فاعل". وأقدم الناقد عبدالله الغذامي على نشر مقال، ذكر فيه أنه ظل محبوساً في أدراجه مدة طويلة، وفي فقرة منه يصف، في شكل كابوسي، تفاصيل زيارة قام بها إلى أحد المرافق الإعلامية، فكانت زيارة أقرب ما تكون إلى جهاز أمني عالي الخطورة، منها إلى مرفق إعلامي. ورأى الناقد معجب الزهراني، أن تعيين إياد مدني أثار أملاً جدياً في أوساط المثقفين والمعنيين:"فهذه الأوساط تعرف جيداً خبرته الطويلة في العمل الإعلامي، وتعترف بأن درايته في مجال الثقافة عميقة وأصيلة... ثم ان تعيينه في مثل هذا الموقع جاء بعد ذلك الملتقى الثقافي الوطني، الذي طرحت فيه أسئلة الثقافة وتحدياتها وطموحاتها، كما لو كنا على وشك الانطلاق في عملية إصلاح ثقافي شامل". ونبه زياد الدريس، رئيس تحرير مجلة"المعرفة"، إلى صعوبة المهمة:"هذا القدوم الميسر لا يعني عيشاً ميسراً في أجواء الوزارة، الفقيرة في بعض أرجائها، والمتخمة في أرجاء أخرى منها. إذ ان أمام الوزير مهمات صعبة، ليس أعلاها تشغيل المحرك"الثقافي"المنطفئ في الوزارة، وليس أدناها إطفاء بعض المحركات التي لا يدري أحد لماذا تشتغل". ويؤكد الشاعر محمد جبر الحربي أن مجيء مدني إلى الوزارة:"فرصة يجب اغتنامها للنهوض بالحركتين الثقافية والإعلامية". ويمكن القول ان مطالب المثقفين السعوديين ليست باهظة ولا هي مستحيلة، ولا تحتاج إلى قوة خارقة لجعلها واقعاً ملموساً. فهل يكون الوزير الجديد، قادراً على البدء بإصلاح ثقافي شامل، وارساء مناخ ملائم تزدهر فيه كل الإبداعات والأطياف الثقافية، من دون هيمنة لتيار حداثي أو محافظ... أم أن الواقع نفسه هو من الصعوبة والتعقيد، حتى انه لا يساعد على التحرك في اتجاه تغييره، مما يبقي الوضع على حاله؟