معرض نخبوي مثير يقيمه"متحف بيكاسو"تحت عنوان:"بيكون - بيكاسو: وشهادة الصورة المعاشة". ليس معرضاً مقارناً كما يوحي به العنوان وحسب بل هو يكشف ايضاً ارهف بصمات تأثير فكر بيكاسو في خزّان صور بيكون بطريقة حدسية على مدى نصف قرن. تكشف الطريقة"المتاهة"التي نظمت على اساسها"سينوغرافية العرض عبر صالاته انه موجّه بشكل اساسي الى النخبة والمختصين، مما يفسّر التباس معناه على الكتابة النقدية المتسرعة فالشواهد الفنية والوثائق الفوتوغرافية النادرة لا تلتزم بالسياق التاريخي لهذا التأثير، فهي تضع مثلاً لوحة"تكعيبية"لرأس رسمه بيكاسو قبل الثلاثينات من بداية القرن العشرين الى جانب رأس منجز بعد نصف قرن من قبل بيكون، لعلها استجابة طويلة الامد على دفاع بيكاسو في حينها عن عدم مطابقة رؤوسه لشبه الاصل بقوله:"أنا لا اصوّر رأساً وانما أصور لوحة". نعرف ان الوحدة الاوروبية افرزت في السنوات الاخيرة معارض ترفع الحدود في تاريخ المعاصرة بين المحترفات الغربية، منها معرضان للفنان الانكليزي فرنسيس بيكون اقيما في بال وفيينا العام الفائت، وذلك تحت عنوان"بيكون وتقاليد تاريخ الفن". رسمت حدود استلهاماته التعبيرية من المعلمين الكبار ابتداءً من تيسيان وانتهاء برامبرانت، ثم تبين ارتباطه بالتصوير الاسباني ابتداءً من فيلاسكس وانتهاء ببيكاسو. لكن معرض اليوم يمثّل الرهان الطموح للكوميسير السيدة بالداساري وهي التي بذلت شهوراً في اسفارها وتوثيقاتها لتثبت في المعرض والكتاب المرافق عمق تأثير بيكاسو في تجربة بيكون منذ ان ابتدأ بيكون الفن عن عمر الثلاثين بلا سابق انذار سوى معرض بيكاسو الشهير الذي اقامته عام 1927"غالوري روشنبرغ"في باريس تحت عنوان:"مئة رسم لبيكاسو". وكان يراقب اعماله قبل ذلك منذ كان في الثامنة عشرة. وهكذا انعكست هذه الزلزلة ابتداءً من موضوعاته:"الصلب"و"الصرخة"و"الرأس القناع"وانتهاءً بطريقة اعدام الهيئات والصراع بين الخط والمساحة ضمن الحساسية التراجيدية - العدمية. اذا عُرف بيكاسو بسعة ثقافته الشمولية خصوصاً الكلاسيكية تعرضنا سابقاً لعلاقته بآنفر فان بيكون على عكسه عصامي لم يدرس التصوير في أي معهد، ومفاجأة ممارسته له كانت من دون سابق اطلاع سوى بصورة انتقائية خاصة على المدرسة الاسبانية خصوصاً بيكاسو. لعل أنجح المقارنات في المعرض هي التي أجريت بين رأس تكعيبي لبيكاسو منجز عام 1909 و"بورتريه"رسمه بيكون عام 1978 لميشيل لاريز. يجتمع المثالان حول اعدام الشبه مع الاصل، بحيث تبدو الوجوه ممسوحة الملامح، مشطوبة بتهشيرات لونية مأزومة ومتوازنة: وجوه مخدشة باظافر الاحباط والاغتراب والهم، مشوهة انحرافية مشطوبة بصفعات الفرشاة، محكوكة، مخدوشة، مثلّمة بادوات حك ومحق. لعلها مرآة لانسان القرن العشرين في حصاره وعذاباته واغتياله الجسدي والروحي واغتصاب حريته حتى حدود الغثيان. يشبه الوجهان الاقنعة المختومة بالصمت وبضجيج العالم، تشريح انتحاري معاد للجمال والحياة مثل سخريات وجوه المهرجين في السيرك. المقارنة الاشد هتكاً للعواطف يمثلها نموذجان: كل طرف يصوّر وجهه في المرآة. لعله الشبه الداخلي الموازي لمصائبية قيامة الكون. مثال آخر يدعو المتفرج لتأمّل نصف قرن من تأثر تعبيرية بيكون بيكاسو نشهده على جدار يعرض لوحة"المستحمّات"لبيكاسو منجزة عام 1928 وثلاثية بيكون الشهيرة والعملاقة المنجزة عام 1972، ثم نماذج تعبر عن استطالة النساء التي انتقلت من شطحات الاول الى الثاني تقفز بدورها من تجارب بيكاسو لعام 1929 الى تجارب بيكون لعام 1969، بصيغة صريحة. تملك لوحة"ناي بان"لبيكاسو عام 1923 تأثيراً خاصاً على مشاهد ذكورية مثلية لبيكون عام 1972، ذلك لان معظم شخوص الاول من النساء ومعظم شخوص الثاني من الرجال. لم يعترف فرنسيس بيكون تماماً بعمق تأثره بيكاسو. من المثير العودة الى حوار صحافي حول هذا التأثير، يجيب فيه على السؤال موارباً ومستنكراً: هل تأثرت ببيكاسو؟ ليست هذه هي الكلمة المناسبة، فأنا اجد ان بيكاسو ساعدني على رؤية اسلوبي، ومهما يكن من امر فهو عبقري العصر ولم يفلت من تأثيره أي فنان". فاذا اعتبرنا ان مصادر تيار"التعبيرية المحدثة"لما بعد السبعينات، ترجع الى هذا الثنائي، لوجدنا ان بيكاسو مثل بيكون يخترقان عصرهما ليتحوّلا الى نماذج رائدة لما بعد الحداثة التي لم تنسّق اشكالها حتى اليوم.