ستة وتسعون عاماً بعد ابتكار يوم الأب، أين يقع الأب في معادلة العائلة، هل هو مجرد معيل لها، يخرج صباحاً للعمل ويعود مساء مستاء وتعباً، واضعاً حداً للضجة والفوضى في المنزل؟ هل يقتصر دوره على العقاب والاقتصاص من الولد غير المطيع... ام انه، بعد الأم، الركيزة الثانية التي لا تتوازن العائلة من دونها؟ أب بأي حال؟ القرن الحادي والعشرون بدّل حتماً في النظرة العصرية إلى الأب بعدما كانت مقتصرة في السابق على تشبيهه بالصرّاف الآلي الذي يتولى تزويد العائلة بحاجاتها اليومية فور بروزها، ناهيك بوضعه في خانة"الضمير الحي"الذي يرعب الأطفال منذ الصغر. فهو الذي يحضّر لهم العقاب متى عاد من عمله ووجدهم غير منتظمين، وهو من يتولى التدقيق بدفتر العلامات المدرسية ليكيل الملاحظات والضرب احياناً كثيرة. فلا يداعب الطفل الا نادراً كي لا يصبح هذا الأخير مدللاً، ولا يظهر اي ضعف امامه كي يبقى قدوة للقوة والرجولة التي ترادف القسوة حتماً من هذا المنظار. وزاد تطور أوضاع النساء في تقريب الأب من اولاده، خصوصاً ابتداء من سبعينات القرن الفائت حيث انطلقت حركة تحرير المرأة التي اخرجتها من قوقعة المنزل وجعلت منها عنصراً عاملاً وفاعلاً في المجتمع. تخرج كل يوم الى عملها لتعود مساء... تماماً كما يفعل الأب. الا أنها كانت مضطرة للقيام بدورين معاً: امرأة عاملة وزوجة وأم في الوقت عينه فيما بدا الأب مضطراً لإعادة النظر بالمهمات الموكولة اليه في المنزل، والتي كانت مقتصرة على قراءة الصحيفة ومشاهدة التلفزيون واصدار الاوامر والتعليمات. فبدأ يهتم بالأولاد بعد ان يكبروا بعض الشيء لأن صغر سنّهم يجعله"خطراً"عليهم، وفق الاعتقاد الشعبي الشرقي الذي يؤكد ان الرجل، على عكس المرأة، لا يحسن التعامل مع الأولاد. وعلى الرغم من هذا التطور البارز، بقي المحيط الذي ينشأ فيه الطفل انثوياً من دون استثناء: الأم عندما يكون رضيعاً، الجدة نيابة عن الأم، الخادمة او الحاضنة في دار الحضانة، ومن ثم المعلمة في صفوف الروضة. من هنا اهمية الوالد، الذكر شبه الوحيد بينهن جميعاً، لأنه يسمح للطفل باستيعاب نظرة شمولية اكبر من نظرة المجتمع المحيط به. وقد جعل هذا الواقع غالبية الآباء، الشرقيين منهم خصوصاً، لا يعلقون أي أهمية على دورهم الأبوي الا بعدما يبدأ الطفل بالنطق وبالتفاعل معهم، اي بعد عمر السنتين، بحيث يستطيع الولد تفسير ما يريد او ما يزعجه، ويمنع بالتالي عنهم كابوس التحري عن سبب بكائهم او انزعاجهم. لكن الدراسات العلمية اثبتت من دون ادنى شك خطأ هذه النظرية، لأن الطفل منذ أشهره الثلاثة، يدرك تماماً ان لديه اباً واماً، بحيث ينمّي علاقة خاصة بكل منهما، لا سيما بالأب، الذي يسعى للتمثل به وارضائه بكل الوسائل. وتصل هذه العلاقة الى ذروة روابطها الوثيقة عندما يرى الطفل نفسه مستقبلاً من خلال نظرة والده، حتى لو لم يكن تخطى السنتين بعد. وتقوى هذه الروابط تصاعداً مع كمية ونوعية الوقت الذي يمضيه مع والده يومياً، اكان الطفل ذكراً ام انثى، خصوصاً انه يتعلم منه كيفية السيطرة على عواطفه وتحويلها الى قوة ايجابية ومثمرة. فلا يكون البطل"بطلاً يطير"او يصنع المعجزات انما انساناً عادياً يعرف كيف يوظف الطاقة التي في داخله. وتختلف العلاقة الأبوية بين الصبي او الفتاة. الأول يتمثل بالأب لأنه يرى فيه مثاله الأعلى ويغار منه احياناً لعلاقته بالأم، وفق"عقدة اوديب". اما الابنة فتنمي علاقة مميزة به وتغار من أمها لعلاقتها بالأب وفق"عقدة ايليكتر". من الستينات الى اليوم تبدلت النظرة العلمية الى الأب جذرياً من الستينات الى اليوم. فبعدما كان العلم يؤكد في تلك الفترة ان تطور الولد الذهني لا يحتاج ابداً الى الأب، باتت الدراسات اليوم تقول بالعكس تماماً اثر انكبابها على تحليل وجود الأب الايجابي في حياة الطفل اليومية وتأثير غيابه او دوره السلبي على توازنه المستقبلي. وقد جاء التطور الذي لحق بعدد كبير من المجتمعات الغربية ليعقّد هذه العلاقة بشكل كبير بعدما تفككت الروابط العائلية كلياً، وبات للولد أكثر من أب أحياناً: الأول هو الأب الطبيعي، والباقون هم ازواج الوالدة اللاحقون، بحيث يضيع المثال الابوي بينهم جميعاً. فيميل الولد مراهقاً الى الجنوح وانعدام المسؤولية، ما يؤثر سلباً في سير المجتمع ككل. وأثبتت الدراسات ان الطلاق يلعب دوراً بارزاً في هذا الاطار. فنصف التلاميذ المنبثقين من عائلات مطلقة لا يكمّلون دراستهم الجامعية، كما يطلقون زوجاتهم في ما بعد بنسبة 50 في المئة، تاركين مهمتهم الأبوية لغيرهم ورافضين الاهتمام بأولادهم... تماماً كما فعل والدهم. وتقول دراسات اجتماعية عدة في هذا الصدد ان الرجل الغربي العصري فقد ثقته بمجتمعه الذي لا يريده"رأساً"للعائلة كما كان تقليدياً، انما هو اليوم"مزودّ عائلته السابقة بالمال". كما اثبتت ابحاث اخرى أجريت في اوائل الثمانينات ان نسبة الجرائم ارتفعت بشكل لافت في لوس انجليس من دون اي سبب مباشر... باستثناء ارتفاع كبير للطلاق في منتصف الستينات حيث تحولت العائلات"انثوية"بعد غياب الوالد وهجره المنزل. من هنا أهمية دور الوالد... الى جانب دور الوالدة، اذ ان الاثنين يكملان بعضهما ولا يمكن ابداً لأي منهما ان يحل محل الثاني. وقد يلعب الأب دوراً مؤثراً في شخصية ولده، من حيث نمو شخصيته ونتائجه المدرسية وجعله يهتم بالغير، ومساندته الضعيف، وانصياعه للقانون والنظام، كما استيعاب مفهوم القوة الذكورية المجبولة بالحنان والعطاء والتضحية. قبل 96 عاماً يعود عيد الأب الى نحو 96 عاماً يوم خطرت هذه الفكرة على رأس سونورا جون بي دود في مدينة سبوكان في ولاية واشنطن بعدما سمعت عظة تتكلم عن تضحيات الام ودورها في عائلتها. الا انها لم تعرف يوماً والدتها التي ماتت باكراً جداً. ولم تعرف سوى والدها"اماً"اعتنى بها وبأشقائها الصغار. لذا، ارادت ان تكرّم والدها وليام سمارت الذي ضحى بحياته من اجل اولاده الستة. فهو اصبح ارمل بعدما ماتت زوجته اثناء ولادة طفله السادس، ما تركه مع طفل رضيع وخمسة اولاد صغار في مزرعته شرق ولاية واشنطن. وتحول"اماً واباً معاً"طوال 21 عاماً لا يأبه لتعب او لتضحية. وانكبت سونورا منذ 1909 على العمل على نشر التكريم للأب لتحتفل بعيد الاب في حزيران يوينو من كل سنة، وهو الشهر الذي ولد فيه والدها. كما شجعت حمل الورود في هذه المناسبة: وردة حمراء للوالد الذي لا يزال حياً، وبيضاء في ذكرى من توفى. وتم الاحتفال بأول عيد للأب في 16 حزيران يونيو 1910 في مدن عدة من ولاية واشنطن. وانتظر عيد الأب العام 1924 ليوافق عليه رسمياً الرئيس الاميركي كالفن كوليدج ويحوله عيداً وطنياً. الا انه لم يصبح رسمياً حقاً الا العام 1966 بعدما وقع الرئيس ليندون جونسون على قانون جعل من ثالث احد من حزيران يونيو عيداً سنوياً ووطنياً للأب. ولم يصبح العيد ثابتاً الا العام 1972، يوم وقع الرئيس ريتشارد نيكسون قراراً رئاسياً جعل من ثالث احد من حزيران عيداً للأب في الولاياتالمتحدة. والتزمت دول عدة بهذا التاريخ فيما عمدت اخرى الى تعيين الحادي والعشرين من الشهر نفسه عيداً للأب... تيمناً ربما بعيد الأم في الحادي والعشرين من آذار مارس.