ما يميّز مهرجانات الصيف الكبرى في لبنان هذا الموسم هو الاقتضاب والاكتفاء ببرمجة مركّزة، تبقي للصيف نكهته، وللمؤسسات استمراريتها، وللجمهور حيويّته ومتعته وحماسته... في انتظار مواسم مقبلة وظروف عمل أكثر استقراراً. الأعمال العالميّة والأسماء الكبرى نادرة هذا الصيف في لبنان إذاً، لكنّها ليست مغيّبة. أضعف الايمان لكي لا يقال إن المهرجانات تقاعست أو صمتت أو تراجعت، ولكي لا يحلّ الفراغ ضيفاً على موسم ينتظر منه جزء من اللبنانيين أن يؤرخ لتحوّل في مسيرة البلد وحركته الفكريّة والثقافيّة. و"مهرجانات بعلبك"لا تشذ عن القاعدة هذا العام. تقدّم التظاهرة العريقة التي تنتقل عروضها من معبد جوبيتير إلى معبد باخوس في مدينة الشمس، تشكيلة من الأعمال والاستعراضات، المحصورة عددياً، المنوّعة فنياً من الاستعراض العالمي لسيرك الشمس 7 - 9 تمّوز/ يوليو المصمّم خصيصاً لبعلبك في فوروم بيروت لأسباب تقنيّة.... إلى المطربة المعروفة وردة الجزائريّة التي تختتم المهرجان 13 آب/ أغسطس، مروراً بالجاز فرقة ديزي غيلسبي - 5 و6 آب/ أغسطس، والموسيقى الكلاسيكيّة عازف الكمان فاديم روبين وفرقته، و... الموسيقى اللبنانيّة من خلال مؤلّف شاب مميّز، عالميّ القامة، يغرّد خارج سربه جامعاً بين البنية الكلاسيكيّة المعقّدة للموسيقى... والروح الشرقيّة الضاربة عميقاً في تراث الفلسفي والأدبي والنغمي للحضارة العربيّة. هذا المؤلّف هو زاد ملتقى بالاشتراك مع المغنية الرصينة وصاحبة الصوت المميّز فاديا طمب الحاج 16 تمّوز/ يوليو. بين الترويج والتسويق وحضور زاد ملتقى في بعلبك يعطي هذا المهرجان دوراً نتمنّى أن يتعمّم ويترسّخ. فحين يكون المهرجان مؤسسة ثقافيّة لا بدّ أن يكون فاعلاً في الواقع الفنّي للبلد الذي ينطلق منه، وذلك من خلال سياسة برمجة وانتاج متماسكة في الرؤية، متواصلة في الزمن. المهرجان السياحي - بالمعنى الحصري للكلمة - يكتفي بالترويج والتسويق، ويكون فضاء ضيافة وترفيه في أفضل الحالات. أما المهرجان الثقافي المتجذر في بيئته وواقعه، فيلعب دوراً حيوياً في احياء التجارب، ودفع المبدعين إلى الانتاج النوعي. وفي هذا السياق تندرج علاقة زاد ملتقى ب"مهرجانات بعلبك": إنّه يعود للمرّة الثالثة أو الرابعة، إذا أخذنا في الاعتبار مشاركته مؤلفاً وعازفاً في مسرحيّة نبيل الأظن عن نصّ جورج شحادة الصيف الماضي "مهاجر بريسبان". ومع كلّ اطلالة جديدة، يعّمق اتجاهه الفنّي الخاص... بعد"نشيد الانشاد"و"زارني"يمضي ملتقى، وريث الأسرة الفنية العريقة والداه أنطوان ولطيفة ملتقى من مؤسسي المسرح العربي الحديث، في سبر أغوار الموروث الشعري والروحي في العالم، من خلال عمل بعنوان"إلى ديونيزوس"مع مجموعة"آرس نوفا"الفرنسية بقيادة فيليب ناهون، وجوقة"لي زيليمان"العناصر. سيكون موعد الجمهور إذاً، أواسط تموز في بعلبك، مع هذا الموسيقي المشبع بأعمال مونتيفيردي وباخ وليغيتي ودوبوسي، والمشغل بالراث الديني والصوفي العربي. وسيقدّم زاد ملتقى قصائد لجورج شحادة وناديا التويني وإيتيل عدنان... وبيترارك وامبيدوكليس وغيرهم، تؤدّى بالعربيّة واللاتينيّة والفرنسيّة والانكليزيّة واليونانيّة القديمة. والبرنامج الموسيقي الغنائي مبنيّ على قياس المهرجان، ضمن شكل جديد، من عناصره الأساسيّة الاضاءة والألوان رسوم تيو منصور، ويتألف من قطع بلغات متعددة وأنواع موسيقية مختلفة متداخلة في ما بينها، تنفذها مجموعتان صوتية وآلية بارزتين على المستوى الأوروبي يستغرق العرض 80 دقيقة. عودة وردة الأشكال الموسيقيّة الأخرى في بعلبك هي الجاز، من خلال حفلة تحييها فرقة عملاق الجاز ديزي غيلسبي عشر سنوات بعد رحيله، بمشاركة باكيتو ريفيرا وروبرتا غمبيني. وستقدم الفرقة برنامجين مختلفين: الأوّل مكرّس للجاز البرازيلي واللاتيني، والثاني للسوينغ والبيبوب be bop. ولمحبّي الموسيقى الكلاسيكيّة الذين تنساهم مهرجانات الصيف العربية عادة، يقدّم فاديم ربيبين الذي يعتبر بين أكبر عازفي الكمان الأحياء، مع أوركسترا مدينة فيلينوس مقطوعات لموزار وتشايكوفسكي. وجمهور الطرب والأغنية العربيّة ستكون له حصّته من"مهرجانات بعلبك"هذا العام، من خلال اطلالة وردة الجزائريّة. كأن كلّ مهرجان يحرص على أن يكون له"مطربه العربي"الذي سيجذب نوعيّة معيّنة من الجمهور، جمهور الفضائيات إذا جاز التعميم. كاظم الساهر في بيت الدين، ووردة في بعلبك. صاحبة الصوت الخاص، تعود ومعها"نار الغيرة"،"حرمت أحبّك". قالت وردة إنّها ستعتزل... لكنّها تعود لتفاجئنا في معبد باخوس الذي يستضيف في ظلّ أعمدته القديمة آخر مطربات الزمن الجميل التي أعطت لوناً خاصاً للأغنية الطربيّة التقليديّة، وفتحتها على الذوق الشبابي مطلع التسعينات مع"بتونّس بيك"و"حرّمت أحبّك"... رافعة الملحّن صلاح الشرنوبي إلى مصاف الكبار. وسيفتتح المهرجان من بيروت هذا العام استثنائياً، ب"سيرك الشمس"الكندي سيرك دو سولاي الذي يقدّم ابتداء من 7 تموز، وعلى امتداد ثلاث ليال، استعراضه الضخم"فلايينغ فلايمز"flying flames ألسنة اللهب المتطايرة. وهذا العمل الفنّي الشامل لا يقتصر على فنون السيرك وألعابه البهلوانيّة، بل هو استعراض فنّي شامل"صمم خصيصاً لمهرجانات بعلبك"، من إعداد مصممة الرقص العالميّة ديبرا براون Debra Brown بحيث تلتقي الموسيقى والرقص والغناء والعناصر السمعيّة البصريّة والألعاب البهلوانيّة والجمباز في احتفال واحد، قائم على الادهاش والابهار.