هل نكون مبالغين إن قلنا أن الرابح الأكبر في"حرب"الانتخابات اللبنانية الأخيرة هو الزعيم الفاشي الفرنسي جان - ماري لوبان، رئيس"الجبهة الوطنية"؟ طبعاً لم يحقق لوبان ربحه هذا في صناديق الاقتراع ولكن، خصوصاً، في الصندوق الآخر: جهاز التلفزة. ومن طريق الاستخدام المدروس للغة الخطاب السياسي كما يتعين نقلها عبر الشاشات الصغيرة. سبق لنا، في مناسبة عبرت، الاشارة الى هذا، لكن الامر في ذلك الحين كان مجرد اشارة عابرة. وكان اشبه بملاحظة نظرية. اما الآن، وإذ يستعرض المرء الكيفية التي تم بها استخدام"ساحة السجال الوحيدة"في معمعة الانتخابات النيابية الاخيرة في لبنان، بات يمكن توسيع نطاق الملاحظة النظرية عبر استحضار لغة جان - ماري لوبان التي مكنته من الانتصار، في مرحلة مبكرة من مراحل الصراعات السياسية الفرنسية، اذ انتقلت من الصحافة وميادين اللقاءات السياسية، الى الميدان الاكبر والأهم: ميدان التلفزة. ولقد سبقت الاشارة مرات ومرات الى أن جزءاً كبيراً من انتصارات لوبان، خلال سنوات الثمانينات، في المعارك الانتخابية وغيرها، انما تحقق بفضل ادراكه، قبل غيره من السياسيين المنافسين، اهمية الخطاب المتلفز في التوجه الى الجمهور العريض، هو الذي فهم الامكانات اللغوية التي يمكن استخدامها عبر الشاشة الصغيرة. ويمكننا هنا ان نشير الى نقاط محددة. مثل شيطنة الخصم، التركيز على الشعار مقابل التحليل، اللعب على الكلام بحذق لفظي ماهر، مخاطبة غريزة المتفرج بدلاً من مخاطبة عقله، اطلاق الاكاذيب والمغالطات وكأنها بديهيات مسلم بها. ثم خصوصاً، من الناحية التقنية، ترك العبارات السجالية حتى اللحظات الاخيرة من البرنامج المدعو هو للكلام فيه، بحيث لا يعود لدى الخصم من الوقت ما يكفي للإجابة. فاذا اضفنا الى هذا ادراك محدودية الوقت المتاح تلفزيونياً، وضرورة الاختصار اللغوي، يصبح في مقدورنا ان نفهم كيف يمكن ان تصاغ نظريات متكاملة حول"الاستخدام الامثل للزمن التلفزيوني". وفي يقيننا ان كثراً من السياسيين اللبنانيين تعلموا الدرس جيداً، سواء كانوا من الذين عاشوا ردحاً في فرنسا واطلعوا، عن كثب، على تجربة لوبان التلفزيونية الناجحة ودرسوها بعناية، او كانت نقلت اليهم التجربة من طريق مستشارين وباحثين، او اخيراً من الذين ادركوا الامر بالبديهة طالما ان فكراً عفوياً واختزالياً وشعائرياً واحداً يجمعهم بالزعيم الفاشي الفرنسي. لعبة اللغة ولعل مثالاً على استخدام لوبان للغة، جناساً وطباقاً واختزالاً، يكفي لاعطائنا فكرة عما نقول. فمرة كان هناك خصم انتخابي للوبان هو برنار ستاسي. وعلى رغم يمينيته كان ستاسي انساني النزعة معادياً للعنصرية. وكان بهذا يشكل خصماً للوبان ذا مصداقية حتى في صفوف اليمين. فكيف جابهه لوبان؟ بجملة واحدة فعلت فعلها يومها. ففي ذلك الحين المانياالشرقية قد سقطت وانكشف دور بوليسها السياسي في عمليات القمع. وكان اسم هذا الجهاز ستاسي. وهكذا، حين قيل لجان ماري لوبان، على شاشة التلفزة ان ستاسي يهاجم عنصريته... ابتسم بسرعة وقال:"من يحمل اسم ستاسي لا يحق له ان يتكلم عن العنصرية". هذا اللعب على الاسم - اسم الخصم - بدا هنا فاعلاً وتلقفه جمهور لوبان مهللاً، فيما نظر جمهور آخر ملياً في دلالات الاسم... ترى أفلا يمكننا مقارنة هذا الاستخدام بما لجأ اليه، مثلاً الجنرال ميشال عون وحليفه سليمان فرنجية، عبر الشاشة الصغيرة، من اللعب على اسم الوزير حسن السبع لمهاجمته؟ ان مثل هذا الاستخدام ما كان ليكون له مفعوله، لولا وجود الشاشة الصغيرة التي تتلقفه بسرعة وتنقله. ذلك ان الشاشة الصغيرة، شئنا هذا ام ابيناه، صارت الميدان الرئيس للمعركة الانتخابية... ولكن، ليس لعرض البرامج او تقديم التحليلات... فهذا كله لا ينفع هنا. ما ينفع هنا هو الشعار السريع والصورة اللاقطة التي تختصر كلاماً كثيراً. والسبب بسيط: الغالبية العظمى من مشاهدي التلفزة، لا تتوقع من الشاشة الصغيرة ان تخاطب لديها وعيها، وخصوصاً اذا كان الخطاب جديداً، تحليلياً يحاول ان يخاطب العقول خطاب سياسي مثل فارس سعيد او آخر مثل نسيب لحود، لا يبدو مجدياً هنا، خصوصاً ان هذين الاثنين لديهما شيء من الطلة المثقفة ما يجعل الجدية والتجهم طاغياً على سماتهما وهما يتكلمان امام الشاشة. وفي المقابل يكفي ان يطل خصمهما ميشال المر بابتسامة متهكمة، غير حقيقية لكنه اتقن رسمها على ملامحه، لكي يهلل جمهوره له وينسى الجمهور الآخر كل شيء. وهذه الابتسامة الساخرة اشتهر بها جان - ماري لوبان قبله، وشكلت جزءاً اساسياً من"خطابه"السياسي. دور الشاشة الصغيرة غير ان ما نقول هنا، لا يجب ان يفهم منه انه ادانة للدور الذي لعبته الشاشات الصغيرة... ذلك ان كلاماً منصفاً، يجب ان يدفعنا، واليوم هو اليوم الاخير للمعركة الانتخابية، الى الاقرار بأن معظم الشاشات الصغيرة واكب المعركة بقدر امثل من المهنية، مع محاولات دؤوبة - لم تنجح دائماً - من اجل توخي الموضوعية. فاذا كانت نشرات الاخبار - وخصوصاً على شاشة المحطة اللبنانية للارسال وپ"المستقبل"وپ"المنار"- استخدمت ليس فقط لمتابعة الحدث، بل لصنعه ايضاً، وغالباً في لغة منحازة - تتضمن التفاوت في الوقت المعطى لكل طرف من الاطراف، والانحياز في التقديم، والاشتغال على الصورة، واللعب على التوليف وما الى ذلك - فإن درع التفوق يمكن ان يعطى للبرامج الحوارية، ولا سيما منها تلك التي ادارها بحذق مارسيل غانم وعلي حمادة، ثم مي شدياق... وكان يمكن ان يضاف هنا اسم عماد مرمل "المنار" لولا حلقته الشمالية هذا الاسبوع، التي كان واضحاً فيها ان عجز مرمل عن استضافة عدد ونوع متساويين من المدافعين عن اللائحتين المتنافستين لم يسجل نقطة في مصلحته، ما عكس انطباعاً بأن"المنار"وپ"حزب الله"، يقفان مع جانب ضد آخر. وهو امر بذل مرمل جهده كله لنفيه. المهم ان هذا النوع من البرامج الحوارية، وعلى هذه المحطات الثلاث، صنع الحدث، وخصوصاً عبر التدخلات الهاتفية المباشرة، التي سجل مارسيل غانم تميزاً في استجلابها، ما عوّض ايجاباً، على بعض لحظات تدخل ذاتي منه، هو، لم تكن موفقة وخصوصاً حين يلجأ الى ضحكته المجلجلة التي غالباً ما بدت مفتعلة وموجِّهة، او الى ابداء دهشة مصطنعة هي الاخرى. لكن غانم، وعلى رغم هذا، ظل صاحب المرتبة الاولى، خصوصاً ان اسلوب استفزازاته للضيوف واعتراضاته كان فاعلاً ونتذكر هنا غضبه في حلقة اخيرة من"كلام الناس"على وزير سابق تدخل هاتفياً ليصر على ان يلعب دور المخبر حتى اللحظات الاخيرة. علي حمادة، في"الاستحقاق"على شاشة"المستقبل"لم يكن اقل نجاحاً وان ظل عليه ان يعيد النظر في"اللوك"الخاص به ويجد وسيلة تمكنه من ان يكون اكثر مرحاً وأقل تجهماً. على رغم هذا يبقى حمادة الافضل، والاكثر اقتراباً الى الموضوعية - ولا سيما حين يلعب دور محامي الشيطان مقابل ضيوفه، على شاشة"المستقبل"، مقابل مقدمين آخرين غلب عليهم الطابع"الحزبي"وتضخم الذات الجمعية المستقاة من موقع من يمثلون، لا من موقعهم هم بالذات. وعلى رغم حداثة تجربة مي شدياق في برامج الحوارات المسائية، لا شك في انها عرفت كيف تسجل نقطة لمصلحتها. خصوصاً انها لم تحاول ان تفتعل"موضوعية"كاذبة، بل ادخلت نفسها طرفاً في بعض الاحيان، ولكن في شكل في غاية اللطف والقوة في آن معاً. ولا سيما حين كانت تدهشها مبالغات ضيوفها مع المرشح سليم العازار، مثلاً!. ويقيناً ان هذا كله جعل من البرامج الحوارية مركز الجذب الرئيس، موفراً لمن يشاء ان يدرس - سوسيولوجيا وسيكولوجيا - الخطاب السياسي الانتخابي فقط؟! في لبنان، ومادة غنية... مادة قد تكون مضحكة ومحزنة، لكنها غنية بالتأكيد. ولا سيما حين يفقد المشاركون اعصابهم ويعودون الى"طبيعتهم"... في مقابل هذه البرامج، وعلى الصعيد المهني نفسه لا بد من اشارة سريعة الى سهرات النتائج الانتخابية نفسها، حيث في مقابل مهنية عالية جداً، كان ثمة بعد"ايديولوجي"- كاريكاتوري بالطبع - تمكن المتفرجون جميعاً من ملاحظته عبر اذاعة الارقام المتدفقة واستخدامها من جانب مندوبي التلفزة... ثم"ترجمتها"من المذيعين داخل البلاتوه. غير ان هذه الملاحظات الاولية، لا تمنع من التأكيد ان الشاشات اللبنانية، حققت قفزة نوعية، مهنية على الاقل، خلال هذه الاسابيع الاخيرة... من دون ان يعني هذا ان الخطاب"السياسي"على هذه الشاشات نفسها، كان فيه ما يشرّف حقاً الحياة السياسية اللبنانية. وفي يقيننا ان المشاركين في هذا"السيرك"الكبير، سيكون عليهم في المرات المقبلة ان يستعيدوا كل ما بُثّ لدراسته جيداً و- للأسف - بالتواكب مع الاستجابة الجماهيرية له.