تعتبر دوريس ليسينغ من أهم الكتاب في الزمن المعاصر، فهي رؤيوية حادة البصيرة، شاسعة الخيال، قادرة على وصف احوال كوكبنا واقعياً وسيكولوجياً وسياسياً، لكنها أيضاً ذات تصوّر مستقبلي أسطوري، قلّما توافر لدى كاتب جاد. وفي سياق ابداعها التخييلي صدرت أخيراً عن"فورث إستيت"روايتها"قصة الجنرال دان وابنة مارا وغريوت وكلب الثلج". ويعكس العنوان الطويل اسلوب قص متدفق كالنهر، سهل كقصص الأطفال، وجذاب كالسراب في الصحراء. والكتاب تتمة لحكاية"مارا ودان"التي يعتبرها نقاد بارزون أجمل كتب ليسينغ كونها سهلة المطالعة وفي الوقت نفسه عميقة الفحوى، تروي مغامرة شقيقين يقومان برحلة طويلة، في الزمن الآتي، يجتازان خلالها القارات الجافة في الجنوب، إبان نهاية العصر الجليدي، باتجاه الخضرة الساكنة الى الشمال من افريقيا حيث يعتبرهما السكان أميرين ضائعين من أمراء قبيلة ماهوندي. في الكتاب الجديد نلقى دان في حال يرثى لها بعد موت شقيقته مارا، يحاول جاهداً استكناه فضائلها ومواهبها، لكنه مثقل، مثل هاملت، بمتطلبات رجاله المحاربين الذين يولونه قيادتهم لاحتلال"توندرا". إلا ان دان يكاد يقرب الجنون لشدة حزنه من جهة، ولأنه بدأ يفقد مقومات القيادة، فذاكرته تخونه والعالم الذي عرفه وأتقن التعامل معه آخذ في التلاشي من بصيرته وبصره. وينعكس ذلك في تقطع عباراته إذ يملي أفكاره على أحد الجنود. خلال عزلته يجد دان عزاء في رفقة الضابط غريوت وكلب الثلج"روف"والباحث علي وريث ثقافة منقرضة تدعى"خراب". وفيما يبكي دان زوال العوالم من حوله وانزلاقها الى الطوفان المقبل يتلمس القارئ شظايا عالمنا الراهن في الرؤى والحوارات المتداولة بين الابطال المذكورين أعلاه. في الرواية السابقة يقوم مارا ودان بمغامرة محورها الارتحال البشري وغريزة البقاء، أما الرواية الجديدة فتحمل ترميزاً مباشراً للقرن الحادي والعشرين. فالجليد، كما هي الحال الراهنة، يذوب ويتفصد مصدراً أصواتاً مريعة، مرسلاً جباله المتكسرة الى عمق المحيطات الدافئة، مما يؤدي الى رفع مستوى المياه وإغراق مدن برمتها، لكن الناس تعتقد ان ذلك لن يؤثر مباشرة على وجودها ولذا لا تفعل شيئاً لوقف التصحر الكوني. في عقدها التاسع وما زال قلمها غزيراً ومتوقداً، تتمتع دوريس ليسينغ بحكمة عميقة، لكنها لا تلجأ الى الوعظ بل تطرح أسئلة مقلقة، بعضها خافت وبعضها الآخر على مستوى الادراك الفلسفي: كيف نستطيع أن نكمل العيش والعمل ونحن موقنون ان كل شيء آيل الى فناء، ابتداء من الناس الذين نحبهم وانتهاء بالكتب التي شغفنا بها، واللغات، والحضارات، والمدن؟ هناك نواح اسطوري يغنّي بضراوة في ظلال السطور، وعلى رغم بساطة الاسلوب تضعنا الرواية أحياناً أمام لحظات موجعة، محبطة، من خلال التوصيف الحارق لمأساة دان، مأساته الشخصية ومأساة جيشه التائه في العراء"تحت نثرة من ضوء القمر"، ولكن أيضاً مأساة الكون المندثر باستمرار أمام عيوننا. ولدت دوريس ليسينغ في 22 تشرين الأول اكتوبر عام 1919 في إيران من والدين بريطانيين، وكان والدها أصيب بالشلل في الحرب العالمية الأولى، لكنه عمل موظفاً في المصرف الامبراطوري الفارسي، وأمها عملت في مهنة التمريض. وعام 1925 انتقلت الأسرة الى جنوب روديسيا زيمبابوي أملاً بجني ثروة من زراعة الذرة، لكن حساب الحقل خالف غلّة البيدر. مع ذلك بقيت الأسرة في جنوب أفريقيا حتى العام 1949. تقول دوريس ان طفولتها كانت مزيجاً من الحلو والمرّ. وكانت تهرب مع شقيقها هاري الى الأدغال فراراً من والدة قاسية مهووسة بالنظافة المبالغة والتقاليد. ولمّا كانت دوريس تكره المدرسة أرسلتها والدتها الى معهد داخلي للراهبات ثم الى مدرسة خاصة للبنات في سالزبوري، لكنها استمرت في التمرد الى أن توقفت عن الدراسة التقليدية وهي في الثالثة عشرة. وتقول دوريس ان الطفولة المضطربة كثيراً ما تنتج كتّاباً روائيين. أما هي فأكملت ثقافتها على يدها، وبواسطة أكداس كتب كانت تصلها في البريد من لندن احتوت أعمال ديكنز وسكوت وستيفنسون وكيبلينغ ولاحقاً د. ه. لورنس وستاندال ودوستويفسكي وتولستوي. في الخامسة عشرة حققت دوريس هروبها الحاسم من البيت الوالدي وعملت كمساعد ممرضة حيث بدأت تطالع مؤلفات في السياسة وعلم الاجتماع، كما بدأت تكتشف الغزل والحب ما دفعها الى كتابة قصص خيالية مملوءة بالحس والرغبة سرعان ما وجدت طريقها الى مجلات جنوب أفريقيا. تعتقد ليسينغ ان البشر لا يستطيعون الوقوف في وجه متغيرات الأزمنة. عام 1937 انتقلت للعيش في سالزبوري حيث عملت بدّالة هاتف وتزوجت فرانك ويزدوم وهي في التاسعة عشرة ورزقت منه بطفلين. إلا أنها ما لبثت أن شعرت بالسجن القديم ينصب قضبانه حول حياتها، فغادرت المنزل الزوجي والتحقت بمجموعة من الأدباء الشيوعيين حيث تعرّفت الى غوتفريد ليسينغ فتزوجا ورزقا بصبيّ. وفي السنوات اللاحقة للحرب العالمية الثانية عادت ليسينغ الى لندن مع ابنها، تركت الشيوعيين بلا مضض، ونشرت روايتها الأولى"العشب يغنّي"بادئة بها مسيرتها الروائية. حياتها، وسيرتها الذاتية وذكرياتها هي المعين الأساس لمادة رواياتها، ومعظم المادة أفريقي، خصوصاً سنوات الطفولة والقضايا الاجتماعية وصدام الحضارات والتمييز العنصري،والصراع الداخلي للأفراد، إضافة الى المواجهات بينهم وبين ضمائرهم حيال الخير العام. من هنا جاءت رواياتها في الخمسينات والستينات إدانات متلاحقة للاستعمار الأبيض في أفريقيا السوداء ما أدى الى منع كتبها ومنعها من دخول جنوب روديسيا وجنوب افريقيا على السواء. لجهة الأسلوب، طالما جهدت ليسينغ للمحافظة على"مناخ التوازن الخلقي"الذي عرفته عبر روايات القرن التاسع عشر، وظهر ذلك واضحاً في سلسلة"أطفال العنف"التي صدرت بين 1951 و1959 وهي توجيهية بطلتها مارثا كويست، تنضج على نار التناقضات الكبرى للعالم الحديث، على غرار ما نضجت الكاتبة نفسها. عام 1962 صدرت روايتها الفارقة"الدفتر الذهبي"تحمل منحى تجريبياً في الرويّ، وتغوص في الاشكالات السيكولوجية للمرأة المعاصرة، بطلتها آنا ولف، تعكس أيضاً رغبات الكاتبة في الصدقية المطلقة والانتصار على الفوضى والقسوة والخبث المسيطر على جيلها. الغريب ان قادة الحركة"النسوية"لم يلحظن فرادة آنا ولف، ولا دافعن عن مؤلفتها التي تعرضت للنقد كون بطلتها"غير انثوية". إلا أن ناقداً ذكراً رأى خصوصية شخصية آنا، فكتب يقول:"انها تحاول العيش بحرية رجل". وأكدت ذلك دوريس معتبرة ان تصرفات بطلتها ما كانت لتصدم المتأنثات لو كانت شخصية ذكورية. في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بدأت ليسينغ رحلتها الغرائبية، فإضافة الى"الدفتر الذهبي"الذي انتهى بإشارة الى رغبة آنا في البحث عن"مساحة مخيالها الداخلي"صدرت عام 1971 رواية"تقرير عن النزول الى الجحيم"وعام 1974"مذكرات ناجٍ"و"أرشيفات كانوبوس في آرغوس"بين 1979 و1983 التي كشفت اهتمام الكاتبة بالتصوّف وخصوصاً بشخصية ادريس شاه. أما الجزء الأول من مذكراتها"تحت جلدتي"فصدر عام 1995 وحاز جائزة جيمس تيت لأفضل سيرة شخصية. عام 1996 ورد اسمها للمرة الأولى في لائحة المرشحين لجائزة نوبل مع صدور روايتها"الحب أيضاً". وللمرة الأولى رفضت القيام بالجولة المعتادة لترويج الكتاب، وذلك لأن التجوال أرهقها لدى ترويج الجزء الأول من مذكراتها:"قلت لناشري سأكون مفيدة أكثر لو تركتموني في بيتي أكتب قصة أخرى، وضربت قدمي الصغيرة في الأرض ولم أمنح الصحافة سوى مقابلة واحدة".