حذار الانطباعات الأولى... خصوصاً عندما يتعلق الأمر بنزاع أوروبي. فلا شك في أن الفرنسيين والهولنديين خسروا احتمال تبلور دستور اوروبي جوهري. إلا ان النتائج تتكشف عن ترسيمة معقدة مثلما هو شأن سائر مسائل السياسة الأوروبية. ولا ريب في أن اليمين المتطرف استثار المشاعر الوطنية والعداء للمهاجرين، جراء تلويحه بفزاعة اليد العاملة الغريبة الرخيصة، وبالاعتداءات الغوغائية المؤسفة التي قد ترتكبها أمواج المسلمين. ولا شيء غير مطروق من قبل في هذا وغيره مثله. ولكن ما يستوقفني في المقابل، هو الاقتراع الاشتراكي، لا سيما في فرنسا. فهذا الاقتراع يوحي بأن الحلم الأوروبي يمر في مرحلة جديدة من الاختمار والنضوج، هو وتأثيراته العميقة المفترضة في مستقبل أوروبا. وعدد كبير من الاشتراكيين الفرنسيين يعلنون أنهم قالوا"لا"للدستور، ليس من باب التخاذل، وإنما، على العكس، لأنهم يفضلون لأوروبا رؤية أكثر تماسكاً، ولأنهم يخشون ربما ان يحتذي الدستور على مثال السوق الأنغلو ? أميركية: ليبيرالي من غير قيود، ومتحفز على الدوام للاستئثار والتفرّد. وذلك، على حساب اقتصاد متماسك على ركائز اجتماعية، تغذيه قيم هي في أساس الحلم الأوروبي مثل التنوع الثقافي، ورغد العيش، والحفاظ على نسيج اجتماعي متجانس، والتنمية المستدامة، واحترام حقوق الانسان، وأخيراً، السلام. وأعتقد أن هذا الخطاب، في توطئته كما في متنه، لا يشوبه التباس من ناحية ان انخراط اوروبا في اقتصاد السوق الاجتماعي محفور في الحجر الأساس للتجربة السياسية الأوروبية. ... غير أن ثمة أمراً جوهرياً حصل. فالتصويت في فرنسا وهولندا يطبع بداية"أَوْرَبة"السياسة، وذلك على مستوى القاعدة الانتخابية نفسها: الى موائد العائلات وفي المقاهي والمصانع والمكاتب، وصولاً الى الشارع. ... وأما وقد انخرط الفرنسيون والهولنديون فعلاً، للمرة الأولى، في السياسة الأوروبية، لم يبق مجال متاح لتراجعهم عن هذا الانخراط. وتفاؤلي هذا مرده الى أسباب هي الآتية: فهم قالوا"لا"للدستور الأوروبي، ولكنهم وجدوا أنفسهم في حال لا تطاق من الفراغ السياسي. وعليه، فإلى أين يذهبون؟ هل يعتقد الفرنسيون والهولنديون فعلاً ان العودة الى اطار وطني تغدق على أولادهم السعادة والازدهار في عالم محصور ومقيّد، أم هم يفضلون أن يقدّموا لأولادهم هؤلاء فرصاً كبيرة وجديدة تحقق الحلم الأوروبي على امتداد قارة لا تني تتوسع؟ وأخيراً، وقبل استخلاص العبر المبكر من نتائج الپ"لا"الفرنسية والهولندية، وفي"بداية النهاية لتجربة مذهلة في السياسة الأوروبية"، فلنتذكر أن أميركا عاشت نحو مئة عام، تخللتها حروب أهلية دامية، قبل أن يقبل مواطنون من أمم مختلفة - ومختلفة جداً - بدستورنا الوطني قبولاً تاماً. وهذه لعبة عنوانها... الصبر. جيريمي ريفكين كاتب أميركي في الاقتصاد والعلاقات الدولية، ليبراسيون الفرنسية، 7/6/2005