عندما يقرأ المرء كتابة علي حرب لا يجد فارقاً بين كتابه الأول والأخير، وإن تغيرت عناوينها، وتعددت موضوعاتها، ولذا فإن مناقشة أي كتاب من كتبه هي في الوقت عينه مناسبة لمناقشة"كتابه الكلي"، منهجاً ورؤية ومقدمة ونتيجة، في استراتيجية الكتابة المعتمدة. منذ كتابه الأول"التأويل والحقيقة"وحتى كتابه الأخير موضوع هذه المراجعة"الحداثة الفائقة"يعتمد الكاتب المفكر فلسفة الاختلاف التفاضلي، كمرجعية، والتفكيكية، كمنهج، وهي تدخل في نطاق فلسفة ما بعد - الحداثة التي تبحث عن المعنى والقيمة في اعادة التفكير بالفكر، وعقل العقل، بمنأى عن كل مطابقة أو مصادرة عقلية - مركزية لوغوقراطية. والتفكيكية، كفلسفة، تهدف الى تجديد المعنى، من خلال ادخال عامل الدلالة على الأفهوم والماهية، والغيرية على الهوية والذاتية، والتفاضل على ما هو عيني، والمختلف على ما هو مؤتلف، وارادة المعرفة على سلطة المعرفة، والاشارة على العبارة، والغياب على الحضور الخ. ونحن نتفق مع علي حرب، في منهجه ورؤيته، وان كنا نختلف معه وعنه، في استراتيجية البحث عن المعنى. وكان جاك دريدا يعتمد في استراتيجيته التفكيكية الخاصة يسميها ستراتيجم تسمية التفكيكات Desconstructions، جمعاً، والحال، فثمة فلسفات تفكيكية عدة في التفكيكية، وان كانت في مجملها تقوم على الاختلاف التفاضلي، والمغايرة لا المطابقة، في جدلية الهوية والغيرية. وثمة"اختلافات"في الممارسة الفكرية والفلسفية، تمايز خطابات ما بعد -الحداثة، وهو أمر ليس بجديد، بل يعود الى تاريخ الفلسفة القديمة، حيث كان غورغياس يؤكد"اللامعنى"و"اللاوجود"في بحثه عن الوجود والمعنى، وكان بارمينيدس يوطد المعنى والوجود في تأكيده"الحضور"و"ثبوتية المعنى"والوجود الموجود، وكان هيراقليطس يقرن الحركة النسبة بالمعنى، في جدلية الحضور والغياب، الوجود واللاوجود الخ. وكذلك هو واقع الحال في الفلسفة الحديثة من نيتشه ومنهجه الجينيالوجي العدمي، مروراً بهيدغر وفلسفة الكينونة، بمفارقاتها وفوارقها، في"حضرة"المعنى حضوره، وانتهاء بجاك دريدا في تأكيده نقض العاقلة Ratio وفلسفة اللاأصل واللاهوية والاختلاف المطلق أو بالأحرى التخالف difference. ونحن، اذا كنا نتفق مع علي حرب في أهمية انتاج المعنى والقيمة والماهية على أساس تفاضلي، في جدلية ودينامية المختلف والمؤتلف، فإننا في منهجنا الخاص نهتم بثبوتية المعنى، وجدلية الحضور والغياب، ولا نهاب التسمية في علاقة الاسم بالمسمى، في عملية التمعين والافهام، أي لا نحاذر اتخاذ مواقف فكرية، عينية، حدثية، وقائعية، يعدها علي حرب أقرب الى موقف الداعية الذي لا يحبذه ولا يؤيده ويفضل عليه، موقف المحلل، المفكك، المنظّر، الباحث دائماً وأبداً عن اللامفكر فيه، والغيب، في تداولية المعنى الفوقية - لا التحتية - اذا صح التعبير. وكتابات علي حرب الأخيرة أصبحت أكثر رسوخاً، تتمايز عن الكتابة الأولى كتاب"نقد المثقف"مثلاً حيث يكون فيها تفكيك المعنى أقرب الى نقض المعنى منه الى نقد المعنى، وتخالف فيها"الوحدة"التعدد في وحدة الهوية، وتصير الجملة بلا عامل ولا فاعل Sujet، ويتم الإعلان - باسم فلسفة الاختلاف والاعتراف - عن"موت المثقف"و"نهاية التقدم"و"لا جدوى الوحدة"وتكون العولمة - كما هي -مرادفة للعالمية، والحداثة وما بعدها. وفي كتابه الحالي"الحداثة الفائقة"يعود الصديق علي حرب الى العزف"المنفرد"على وتر العولمة باعتبارها صنواً للعالمية! يأخذ عنوان الكتاب مفهوم"الحداثة الفائقة"من الموجة الأخيرة لكتاب ما بعد الحداثة، بالاندييه ومفهوم ما فوق الحداثة Surmodernite، وأولريش بك Modernite reflexive الحداثة الفكرانية يترجمها علي حرب بعبارة الحداثة الارتدادية، خطأً، ولا سيما الحداثة القصوى أو الفائقة Hypermodernite، عند نيكول أوبير. والحداثة الفائقة كما يصوغها علي حرب هي عنوان عريض لزمن متعدد ومركب تندرج تحته مختلف الموجات والطفرات والتحولات التقنية والحضارية والاجتماعية والثقافية التي تصوغ الحياة المعاصرة وتشكل المشهد الكوني، الزمن المتسارع والمكان المفتوح، الانسان الرقمي والفاعل الميديائي، الاقتصاد الالكتروني والعمل الافتراضي، البداوة الجديدة، والجنسية المتعددة، الهويات الهجينة والثقافات العابرة، القيم المتحركة والمهمات المتعددة، الأجهزة المتحكمة والنصوص الفائقة، انكسار النماذج وتشظي المراكز، انهيار اليقينيات والمقدسات والمطلقات، نظام المخاطر وحال الطوارئ، لغة التداول والتحول والشراكة. ويرى علي حرب بروحية التقرير التفاؤلية ذاتها، أن العولمة ليست ثمرة سيئة لإرادة شيطانية كما يتعامل معها أكثر المناهضين لها من عرب وغير عرب، وانما هي ثمرة العصر وفتوحاته الكونية وتحولاته الحضارية واختراعاته التقنية. ولهذا يرفض أطروحة"العولمة البديلة"، باعتبار ان زمن الحداثة الفائقة غايته ليس التفتيش عن عولمة بديلة، بل التمرس في بناء عقلانية مغايرة نتخطى فيها الأزمة الى ما بعدها. كما يرفض مقولة بودريار"الثقافية"حول أثر العولمة السلبي في الخصوصيات والهويات، ليعود في نهاية كتابه وينقد الموقف الأميركي العائد الى الحلفاء الأوروبيين للتباحث والتشاور، بإيلاء"المسألة الثقافية"أهميتها في محاربة الارهاب، كما تجلى ذلك في طرحها مشروع اصلاح الشرق الأوسط! ص 219. ما رأي علي حرب باستطلاعات الرأي الأخيرة في فرنسا التي أكدت الهوية والخصوصية في عاصمة وحاضرة الوحدة الكونفيدرالية الأوروبية، ألا يؤكد هذا الأمر أهمية الهوية، والخصوصية في اطار العولمة الكوكبية؟ وتفكيكية الصديق علي حرب، الدمث، الهادئ، الذي يحبه كل من يخالطه تجر عليه، دائماً حروباً مجانية، بسبب أحكامه غير المحكمة في كثير من الأحيان، وهو في هذا الكتاب يضيف الى شطحاته ضد"المثقف"و"الداعية"و"المناضلين"وأصحاب المشاريع المشروعة! القول إن"أحاديثنا عن"أصولية بوش"وأحاديثه القطبية، انما تنطوي على التهويل والتضليل، بقدر ما تحجب الحقائق وتطمس المشكلات في عالمنا العربي، حيث نعاني في مجتمعاتنا فائضاً أصولياً"! هكذا يصبح المفكر، الباحث عن الحقيقة المختلفة، اللامفكر فيها، داعية، الفارق بين وبين الداعية الآخر هو كالفارق بين المحامي السيئ لقضية عادلة، والمحامي الجيد لقضية غير عادلة. وعندما نشاهد الصديق علي حرب في مواقفه الميديائية، وأطروحاته السياسية"الدعاوية"في التلفاز نتذكر المثل المصري الشعبي حول الفارق ما بين الكلام والأعمال! هل الفلسفة التفكيكية فلسفة قول أم ينبغي أن تكون فلسفة أقوال وأفعال؟ أي فلسفية"فعلية"عملية؟