ينبغي لمن يريد الذهاب الى العراق ان يتسلح بقوة اللامعقول وان ينسى أي شيء له علاقة بالمنطق وان يتدرب على امتلاك خيال مترع بالفنتازيا, او ان يمتلك حقيبة مملوءة بالحيل واخرى بالادعية لكي يستطيع ان يجتاز حقول الالغام المنتشرة في كل متر من ارض العراق. لا يمكن الاستعانة بعلم النفس او علم الاجتماع لتفسير ما يجري في الشارع العراقي، فالظواهر ينفي بعضها بعضاً والسلوك اليومي يتغير بتغير البيئة وطبيعة الاشخاص وهوياتهم وانتماءاتهم العرقية او الطائفية التي قد يفقدون حياتهم بسببها. يتداول العراقيون قصصهم التي تحدث كل يوم على ارض واقعهم وكأنها تعني شعباً آخر وتاريخاً لا يخصهم! حتى الاطفال يمارسون هذه التورية، فعندما يسمعون صوت انفجار سيارة مفخخة يحددون مكان انفجارها بدقة ويعودون الى لعبهم الحربية. لا احد يعرف بالضبط كيف يمارس العراقيون حياتهم اليومية. فالكبار يذهبون الى وظائفهم مبكرين، والاطفال الى مدارسهم والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة تنفجر، والارهابيون يظهرون على شاشات الفضائيات وهم يدلون بأعترافاتهم المريعة... هذه المشاهد المرعبة تنتهي عادة بتعليقات سريعة وتجديفات خافتة وينتهي الامر عند هذا الحد بانتظار يوم آخر اقل رعباً ودماء. كل تفصيل صغير او كل حكاية تحدث في العراق تحتاج الى كتاب كامل، تحتاج الى رواية، ولكن لكثرة هذه التفاصيل وغرابتها التي تصل حد الادهاش يحار المرء أي حكاية يختار ! ولكنني سأروي ما حدث معي في الطريق بين مدينتي بغداد والحلة او ما يسمى بمثلث الموت. بعد انتهاء مهرجان المربد الشعري الذي عقد في مدينة البصرة سأخصص مقالة منفردة عن المربد، عاد الشعراء في ثلاثة باصات كبيرة الى بغداد. وعند وصولنا الى منطقة الحفرية التي تجاور منطقة المدائن، مثلث موت، آخر اقترب احد الشبان الملثمين من السيارة الكبيرة التي تقلنا وهو يحمل هاتفاً نقالاً وبدأ اتصالاً مشبوهاً مما حدا بأحد الشعراء الى سحب مسدسه وتوجيهه الى الشاب من نافذة السيارة حيث توارى مسرعاً خلف الشاحنات. في ساحة الاندلس مقر اتحاد ادباء العراقيين توقفت الباصات الثلاثة فتناول كل حقيبته مباشرة الى البيت لأن بغداد بعد الثامنة مساء مدينة اشباح وقطاع طرق. اضطررت الى البقاء في بغداد على امل الذهاب في الصباح الباكر الى مدينة الحلة حيث تقطن العائلة في صحبة الوالدة. في التاسعة صباحاً وصل اخي بسيارته "الاوبل" يصحبه ابن اختي كحماية فأنطلقنا الى الحلة. حين وصلنا الى منطقة اللطيفية جنوببغداد اخطر مناطق العراق اطلاقاً، تبعتنا ثلاث سيارات نوع "برنس" و"اوبل" وعند اقترابها منا بدأ ركابها يشيرون الى اخي بالتوقف كان شعري غريباً... ابيض وطويلاً مما جعلهم يظنون انني اجنبي!! غير ان اخي بدلاً من ذلك انطلق بسرعة كبيرة جعلت السيارة تتطوح في الهواء. لم اكن اعرف في شأن الارهابيين او الخاطفين ولكن قيادة أخي بسرعة 200 كلم جعلتني انتبه الى ذلك. ظل الخاطفون يلاحقوننا حتى منطقة المحاويل... لحسن الحظ كانت الطريق غير مزدحمة، ولكنني قضيت نصف ساعة مرعوباً رعباً لن انساه طوال حياتي. ذلك انني كنت اعرف ماذا يفعل الخاطفون بالضحايا خصوصاً ان الفضائيات اظهرتني وانا اقرأ قصيدتي في المربد اكثر من احدى عشرة مرة في التلفزيون. بعد ان استطعنا الهرب من الخاطفين اوقفتنا سيارة للشرطة العراقية وطلبوا بطاقاتنا الشخصية. لم تكن لدي اية اوراق عراقية. اذ صادرتها الاستخبارات العراقية حين داهمت بيتي قبل اربعة عشر عاماً ما اضطرني الى استخدام جوازي الهولندي. في كل مرة كان عليّ ان اشرح للشرطة الكثير من التفاصيل المملة وكنت استعين بالصحف العراقية التي اجرت معي حوارات صحافية لاثبات هويتي العراقية. بعد وصولي الى مدينة الحلة ذهبت مباشرة الى الحلاق وطلبت منه ان يقص شعري الى اقصى درجة ممكنة. ثم اشتريت ملابس بسيطة للغاية حتى بدوت "حجي" دلالة الكبر والبساطة حد العجز. ومنذ ذلك الحين لم يعد احد يهتم بالنظر اليّ. هذه هي المرة الثالثة التي ازور فيها العراق. كانت المرة الاولى بعد سقوط الصنم مباشرة من طريق الاردن، اما الثانية فكانت بعد سنة من ذلك ومن طريق سورية، وهذه الاخيرة من طريق الكويت. الفارق بين هذه الرحلات الثلاث هو طريقة التعامل التي يعتمدها الاخوة العرب مع العراقيين العائدين الى بلدهم. كنت اتصور ان الاخوة الكويتيين سيزعجونني بالكثير من الاسئلة بسبب الغزو الصدامي للكويت، مثلما حدث على الحدود الاردنية والسورية... لكنّ الامر كان يسيراً للغاية مع كلمات ترحيب طيبة ادخلت السرور الى قلبي وشعرت بأن الهوة النفسية التي احدثها الغزو بين العراقيينوالكويتيين يمكن ردمها بسهولة، فالجميع يعرف ان الجيش العراقي لم يكن راغباً ابداً في دخول الكويت، وانما هي واحدة من حماقات صدام الكثيرة. في مطار الكويت التقيت مصادفة بالشاعرين العراقيين فوزي كريم والشاعر عبدالكريم كاصد المدعوين الى مهرجان المربد، فكانت مناسبة للذهاب معاً الى البصرة. كانت الحدود بين العراقوالكويت مغلقة لسبب غير معروف، لكن اتصالاً من وزارة الدفاع العراقية الى وزارة الداخلية الكويتية سمح لنا نحن العراقيين الستة فقط فوزي كريم، عبدالكريم كاصد، موفق السواد، صالح فارس، دنيكا هاوزنخا، صلاح حسن المدعوين الى المهرجان بالدخول الى البصرة. في ما بعد اكتشفت ان الذي اجرى الاتصال وسهل مهمة دخولنا الى البصرة هو صديقي حامد الساري الذي اصبح يشغل منصب مسؤول استخبارات منطقة الجنوب ومستشار وزير الدفاع! ما لم يحدث في تاريخ الدولة العراقية ان يصر الصديق حامد الساري نفسه على ايصالي آمناً الى الحدود الكويتية برفقة ضابطين من الاستخبارات اثناء عودتي الى هولندا! والاغرب من ذلك ان يطلب رئيس اتحاد البصرة الشاعر حاتم العقيلي من مدير الاستخبارات ان يوفر له حماية عند اجراء الانتخابات خوفاً من تدخل الجماعات الرديكالية الموالية لايران بريد البصرة يذهب الى طهران!! هذه هي الفنتازيا العراقية. يستخدم العراقيون في احاديثهم اليومية لغة مشفرة، وفي كل يوم تظهر مفردات جديدة تضاف الى قاموس الشارع العراقي متساوقة مع ما يجري في هذا الشارع من ظواهر غريبة. آخر هذه المفردات "العالوس" وتطلق على الاشخاص الذين يقومون بحماية المسؤولين في الدولة يقوم "العالوس" ببيع المسؤول الذي يفترض انه يحميه الى الارهابيين من طريق تقديم معلومات دقيقة عن تحركات هذا المسؤول ما يسهل عملية اغتياله او خطفه. من اجل ورقة اميركية خضراء فئة مئة دولار تحز يومياً عشرات الرؤوس في العراق. وأكثر هذه الرؤوس لنساء عراقيات يغتصبن ويذبحن ويلقى بهن في النهر في نهاية المطاف. المرأة العراقية اكثر الكائنات على الارض عرضة للعذاب. توجد بين المحافظاتالعراقية مناطق شاسعة غير مأهولة يستخدمها الارهابيون لتنفيذ عملياتهم البشعة. والشيعة الذين يدفنون موتاهم في مدينة النجف اكثر عرضة للقتل... فقد ابتكر الارهابيون طريقة اقل بشاعة من السابق، اذ بدلاً من ذبح شخص حي يقومون بذبح الميت من اجل تقديم رأسه الى امير الجماعة. هذه هي القصص العراقية الاكثر حداثة من روايات اميركا اللاتينية وبحر الكاريبي.