جاءني صوت الدكتور سلمان قاصد مدير مهرجان المربد من البصرة: نريد هذه السنة أن نحتفي بالشعراء السعوديين. تداولنا بعض الأسماء، ولمست فيه حرصه الشديد على أن يكون الحضور الشعري منوعًا ومن جميع مناطق المملكة. ولأسباب وظروف طارئة لم يستطع بعض الشعراء المدعوين الذهاب إلى البصرة بعدما وافقوا حالما وصلتهم الدعوة. ولم يتبق منهم سوى ستة شعراء ذهبوا للمشاركة وتمثيل الوطن جاسم الصحيح، وعبدالوهاب أبو زيد، وجاسم العساكر، وطلال الطويرقي، وحسن ربيح، وأنا. التفكير في مهرجان المربد هو بالضرورة تفكير بكل شيء جميل يتعلق بالشعر والأدب والحياة بالعراق، يتعلق بالغناء والطرب والتاريخ العريق الممتد إلى آلاف السنين، يتعلق بشارع المتنبي والرشيد ومقاهي الشعراء والفنانين والمثقفين. لقد تفتحت حواسنا منذ الصغر على رنين الأصوات التي اعتلت منبر الشعر في المربد، فمنذ أن بدأ في السبعينات وإلى دورته الحالية والتي تحمل رقم 32 لم يخفت صوت بدر شاكر السياب ولا بلند الحيدري ولا نازك الملائكة أو عبدالوهاب البياتي عدا الشعراء العرب الآخرين الذين حفروا أسماءهم على هذا المنبر وساهموا في تأسيس الذاكرة الشعرية العربية. لم أسافر إلى مربد بغداد قط، وحين انتقل إلى البصرة وجاءتني الدعوة هذه السنة فجأة تذكرت عبوري الخاطف إلى مدينة السياب وسعدي يوسف ومحمود البريكان وأبو الخصيب وجيكور. ففي سنة 79م كنت لا أتجاوز الخامسة عشرة من العمر وكنت مع العائلة في طريقنا إلى النجف وكربلاء، حيث لم يعلق في ذاكرة الفتى إلا القليل من معالم هذه المدينة، قد تكون صورة تلك المقاهي التي تصطف على جانبي الطريق وهي تقدم الشاي العراقي (المخدّر) هي الصورة الأكثر رسوخًا في ذهني، وليس هذا فحسب، بل ما زال صوت الملعقة (الكفشة) الذي يحرك كوب الشاي (الاستكانة) هو الأكثر حضورًا من بين جميع الذكريات المرتبطة بالبصرة، على الرغم مما يصادفه المرء في جميع مدن العراق بمظاهر تقديم الشاي بنفس الطريقة. ربما السبب يعود إلى الدهشة الأولى للأشياء التي يراها الفتى في أول حياته. لذلك كان شرب الشاي المخدر في هذه الرحلة أشبه ما يكون بالطقس المعتاد وكنا والأصدقاء نحتفي به أكبر احتفاء. خلال خمسة أيام كنا تحت سماء البصرة وفوق أرضها نبحث عن شعرائها ومبدعيها ليس في قاعات المهرجان فقط، بل في مكاتبها وشوارعها وأسواقها. كنت حريصًا أن ألتقي بشخصين علمين مبدعين من هذه المدينة الدكتور لؤي حمزة عباس والشاعر طالب عبد العزيز، كان كلاهما يخبرني عن خراب البصرة وما حل بها من دمار كل بطريقته المميزة في السرد. وحين وقفنا أنا وصديقي عبدالوهاب أبو زيد أمام تمثال السياب قال لنا الدكتور لؤي: من المفارقة أن يكون وجه التمثال مقابلا لمبنى وزارة النفط في اللحظة التي مات فيها السياب معوزًا وفقيرًا في الغربة.