تدمير الممكن باسم المستحيل -1- يجب ان نعترف ان كثيراً مما يمكن ان يسمى في علم النفس ب"شهوة القتل والالغاء"، مصحوبة بما يسمونه ب"طبائع الطفولة"، ظاهرة شديدة الحضور عند كثير من الجماعات التي تتكون منها المجتمعات العربية. وهذا الحضور سياسي وثقافي معاً، يحول دون قيام حوار حقيقي بين هذه الجماعات. ويحول بالتالي دون التضامن والتعاون، ودون التقدم. يزيد المسألة تعقيداً ان وراء هذه الظاهرة تاريخاً طويلاً من الطغيان والقتل والكبت، على الصعيدين الخارجي - الاستعماري، والداخلي - الوطني. وراءها، اذاً، كثير من الحذر، والريبة، والشك، والخوف، وانعدام الثقة، والاتهام... الخ، اضافة الى كثير من الافكار المسبقة، الظالمة والخاطئة في معظمها. إنها نفسها"الظاهرة"التي تجعل الناس، وعلى نحو مفارق،"يصبرون"، مثلاً، ألف سنة أو أكثر أو أقل ثلاثين سنة، بالنسبة الى النظام الصدامي، على الطغيان، بمختلف أشكاله، ولا يصبرون سنة واحدة على تهديمه واستئصال آثاره! في هذه الظاهرة كذلك ما يفسر معارك التهديم، تهديم الآخر وتهديم الذات، بشكل وحشي لا ينتج غير المزيد من الانهيار، وغير العقم. بل يمكن، في ضوء هذه الظاهرة، ان نفهم كيف ان الثورات العربية في القرن العشرين المنصرم لم تستطع ان تكون ثورات لبناء التحرر من الخارج، ولبناء الديموقراطية وحقوقها وحرياتها في الداخل. وإنما كانت، على العكس، ثورات لبناء المزيد من السجون، أو للمزيد من إحكام السجون القائمة المتوارثة في جميع الميادين. في هذه الظاهرة أخيراً ما يوضح كيف ان الجماعات التي تتكون منها المجتمعات العربية لم تكن في هذا القرن، على رغم"التضحيات النضالية"الضخمة أكثر من زبد عائم في نهر التاريخ. -2- عندما نفكر في الحاضر، سلباً أو ايجاباً، لا يجوز ان ننسى الماضي، القريب والبعيد، أو ان نعزله. ويجب ان نكون صادقين في الرؤية، وفي القول. إن بغداد، منظوراً اليها، بعين الحق والصدق والموضوعية، كانت في جانبها السياسي، منذ بداية الإسلام، سلسلة من الحكام الطغاة، الا استثنائياً ونادراً جداً، وصحراء من السجون والقتلى، الا استثنائياً ونادراً. لذلك، عندما نسأل: ماذا يجب ان نفعل في حاضرنا، يجب ان نسأل في الوقت ذاته: ماذا فعل أسلافنا، وماذا فعل وارثوهم؟ إنهم هم الذين"ورّثونا"هذا الحاضر المرعب - او على الأقل، عناصره الاساسية. كيف اذاً، لا نثور عليهم، ونرفض أفكارهم وأعمالهم، اذا كنا نريد حقاً ان نتخلص من هذا الحاضر؟ والحق ان الحالة الراهنة في بغداد محاكاة لآلاف الحالات التي عرفتها هذه المدينة، على مدى خمسة عشر قرناً. غير انها محاكاة متفوقة: أكثر انحطاطاً، وأكثر إيغالاً في الوحشية. نخطئ، اذاً، اذا فكرنا ان"ذهاب"صدام حسين إنما هو"ذهاب"لنظامه. فصدام حسين"عقلية"، و"منهج"و"تراث". وما يحدث الآن في بغداد، يحدث، بوصفه تنويعاً آخر على هذه"العقلية"وهذا"التراث"، أكثر مما يحدث بصفته حرباً على الأجنبي. ذلك ان فرص هذه الحرب كانت متوفرة قبل نظام صدام حسين، وفي أثنائه. كان هناك مجال للثورة على الأجنبي، وبخاصة الولاياتالمتحدة، في كل مكان من العالم العربي، من المحيط الى الخليج، مروراً بالسودان وحروبها الدينية، والاثنية - العرقية -"المظفرة"! وليس انتهاء بفلسطين. غير ان هذه الفرص"غابت"أو"غُيّبت"! إن ما يحدث في بغداد إنما هو"انفجار"داخل النظام العام الذي كان النظام الصدامي جزءاً منه. أتكون حربنا في بغداد، اليوم،"وطنية"،"تحريرية"، ونحن نقتل بعضنا بعضاً: نقتل سنّةً باسم الشيعة، أو شيعةً باسم السنّة؟ أو نمارس عنصريتنا، باسم العروبة، ضد الكردية؟ أو نمارس النبذ والتكفير والتهجير والقتل، باسم الإسلام الحق، أو باسم"الانبعاث"العربي، ضدّ أجزاء من مكونات مجتمعنا ? ضدّ البهائية، واليزيدية، والصابئة... وغيرها؟ إن محاربة الأجنبي تقتضي، أولاً وقبل كل شيء، القضاء على كل ما يسوّغ له التدخل: المذهبية، والطائفية، والعنصرية، والقمع، والعبث بالانسان وحقوقه. إنها تقتضي أخلاقية البطولة، وبطولة أخلاقية دون ذلك لن تكون حربنا، مهما كانت شعاراتنا وتضحياتنا، انتصاراً عليه، وإنما ستكون، على العكس انتصاراً له. -3- "الجماعة بوصفها اسماً لغياب الأسطورة": عبارة للفيلسوف الفرنسي الشاب جان - لوك نانسي، يمكن ان نغير معناها لكي تنطبق على"الجماعة"عندنا، فنقول:"الجماعة بوصفها اسماً لحضور الاسطورة"! فالجماعة عندنا، دينياً أو ايديولوجياً، ذات بنية"أسطورية": مطلقة، و"فاشية". هكذا لا نستطيع ان نخرج من"الاسطورة"بمعناها السلبي المغلق، لمجابهة الواقع كما هو، وبما هو، من أجل تغييره، ولا نستطيع، عملياً وفي الممارسة الحيّة، ان نحترم الديموقراطية, والتعددية، والحريات، وحقوق الانسان، اذا لم نخرج من"سجوننا"، الموروثة، واذا لم نعترف ان شعوبنا مكونة من جماعات تكوّنت هي نفسها في المذهبية والطائفية والتعصب والانغلاق والعنصرية والطغيان. وانها، الى ذلك، جماعات ترتبط بالماضي على نحو"استعادي"و"انبعاثي"أدى، عملياً، خصوصاً في القرن العشرين المنصرم الى تدمير جميع الممكنات باسم المستحيل. وأن نعترف يعني ضمناً وبدئياً، القضاء قبل كل شيء على هذه السجون. تنويعات على رماد بغداد -1- التاريخ يوقظ احداثه الماضية، ويعيد ترتيبها. ثمة أوراق: جلود غزلان، سعف نخلٍ، عظام، جماجم، أحجار بيض، مسطحة، ومدورة، تعيد بغداد تصنيفها. الواقع كوكب يدور خارج المجموعة الشمسية الأليفة. لا تقدر الأبجدية ان تحتضنه. والطبيعة أقرب الى ان تكون مخطوطة رملية يصعب حفظها، تتزق وتتناثر بين أصابع ريح تهب آتية من طبيعة أخرى. لا صوت الا ذلك الذي يخرج من أعاصير ترتطم بالمعدن، وتتحالف معه. يقفز الضوء من معدن الى آخر كأنه نورس يرتعش رعباً. الأشباح تتكاثر وتتنوع. تتغلغل على نحو لا سابق له، في كيس تحت إبط الفضاء. دواليب تبدو كأنها تتحرك في خيوط الغبار والشمس. والماء، في دجلة والفرات، يبدو كأنه عرش ذري، تارة، ويبدو تارة كأنه كرسي الله. الأفق أشعث أغبر -2- ما هذه العريشة الحديد على كتفي بغداد؟ شفاه المدن تضطرب، والحياة إبريق يكاد ان ينكسر. وثن من الشحم تحتضنه أيد معروقة. في كل خلية من خلاياها بحيرة من الشهوة. يجلس جسد الشهوة على المعدن، وتتمدد روحها على القش. ما أعجبها! ريشة لا تزحزحها الريح. متى تنهض أيها الملاك النائم تحت سرّتها؟ تفجّر أيها الماء اللامرئي. أنت، وحدك، غلبت الصحراء. -3- يكاد الليل ان يبعثر نجومه على جسد بغداد. تتململ، نائمة، وتنتظر نبيّ اليقظة. تضع خدّها علىالرّمل، وتنتظر نبيّ اليقظة. تودّ لم ان الأرض كتاب تختمه بآهاتها مأخوذة بنبيّ اليقظة. يقف الطين بين قدميها، وينقسم شعوباً شعوباً. ماذا حدث لذلك اللوح الذي نزل عليها، مليئاً بالحياة وأساطيرها؟ ماذا حدث لتلك الشجرة التي قيل ان الشيطان كَمَن لها في ثمارها، ولا يزال في كمينه؟ لكن، انظروا الى نهر التاريخ كيف يتدفق في سهل اللغة، آتياً من جراح بغداد. تاريخ يطير في مخيلتي كأنه تمساح أسود. هل أحد يعرف أين بغداد وأين العرب غيرُ النجوم؟ وها هو الزمن يترضرض في جسد بغداد وليس لدمعها أخ إلا المنفى. - 4 - هل علينا، بغداد، لكي نعرفك، حقاً، أن نفصل بين أسمائكِ ومسمّياتها؟