عبر عقود وأمن الخليج يقوم على"التضاد"أعني تواجه القوى في شيء من توازن الرعب: بريطانيا والغرب ضد الاتحاد السوفياتي، العرب وإيران على طرفي نقيض سواء في عهد الشاه أو عهد الثورة، أنظمة الخليج المحافظة ضد الأنظمة العربية الراديكالية... أميركا بمواجهة العراقوإيران، وهكذا... ويسجل تاريخياً للأنظمة الخليجية المحافظة أنها امتصت واحتوت الكثير من الحركات المهددة لها، من طموحات الملك غازي واندفاعاته في العراق الهاشمي، إلى المد الناصري الكاسح من بعده - الذي كان للمفارقة المنبّه التاريخي لها - فثورة عدن الماركسية، فثورة إيران الخمينية، فالمغامرات الصدامية، محققة لمجتمعاتها، بعض المطالب المعيشية التي طالبت بها تلك الحركات للجماهير من إسكان وتعليم وتوظيف، وذلك بفضل فوائضها النفطية التي ما زالت تستخدم كترضية سياسية لقوى المجتمع والبعض يقول إنها "رشوة "سياسية! هذا فضلاً عن سياساتها الحذرة والمتأنية التي لا تخلو من حكمة والتي تميزت بها باقتدار وهي سياسات يجب عدم إغفال أثرها في تجاوز الكثير من المشكلات، وإن كان علينا أن ننتظر لنرى مدى مفعولها في مواجهة الأوضاع الراهنة. ذلك أن مناخ الإصلاح السياسي وضغطه المرتفع اليوم في العالم لن يسمح باستمرار مثل هذه الترضيات السياسية إلى ما لا نهاية. وفي ما يتعلق بقدرتها على امتصاص صدمات الحركات الراديكالية، هل نعتبر ملف الحركة الأصولية وأعمال الإرهاب الجارية منتهياً مثل الحركات السابقة؟ وهل كل مرة ستسلم الجرة... أم يتطلب الأمر من الآن فصاعداً احتواء من نوع آخر للآتي المختلف عما سبقه؟"مختلف"بمعنى إن منطق العالم أصبح لا يتقبل إلا المعادلات القائمة على الحسابات الصحيحة وإن كان السلوك السياسي لبعض القوى في المنطقة يميل إلى التحايل عليها بشكل أو بآخر. "الحسابات الصحيحة"في حوض الخليج إذا أخذناه بامتداده الاستراتيجي الأوسع تمثل رياضيات شديدة التعقيد ولكن كمبيوتر المستقبل الخليجي لن يعمل في النهاية إلا على أساسها، إذا أريد الانتقال من حالة التضاد إلى حالة التشارك، التي تعني بالتأكيد تبادل المصالح بين كل من يهمه الأمر بلا استثناء، خصوصاً أن دول المنطقة كافة بلا استثناء مقبلة على تصحيح أو تعديل أوضاعها الداخلية، فلا بد من إعادة تأسيس الوضع الإقليمي على أسس أكثر منطقية لضمان الاستقرار الدائم من أجل الإصلاح والتنمية. يقتضي منطق العالم المعاصر والنهج السياسي المتحضر أن تجلس أطراف"المثلث"في حوض الخليج، وهي المملكة العربية السعودية مع منظومة مجلس التعاون، وجمهورية إيران الإسلامية، وجمهورية العراق عندما تستقر أوضاعها، أن تجلس جنباً إلى جنب، كما هو قدرها في الجوار المصيري والجغرافي - فتجمع جديد التاريخ مع قديم الجغرافيا - ثم تدعو إليها بلا تحرج وبواقعية سياسية كل الأطراف الدولية المعنية بمنطقة الخليج من الولاياتالمتحدة، إلى الاتحاد الأوروبي، إلى روسيا الاتحادية وصولاً إلى قوى الشرق الآسيوي من هند وصين ويابان، ليضع الجميع مبادئ الأمن والتعاون في حوض الخليج لعام 2010 وما بعد. وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن أن يتساوى جميع هؤلاء في الأدوار والمسؤوليات، فلكل منها دوره وحجمه وتأثيره... فلقد أتضح أن منطق إما وإما حبله قصير. إما أميركا وإما العراق أو إيران؟ وذلك بانتظار مواجهة أخرى... وحرباً رابعة أو خامسة... أي حرب تلد أخرى كما عنون سعد البزاز كتابه. وما زالت الانفعالات السائدة في المنطقة والخطاب السياسي المعلن في عواصمها الكبيرة ينطلق من فكرة التضاد والمواجهة، في ما بينها، وضد"الإمبريالي الأكبر"، وإن كان التعاطي معه ومع غيره من تحت الطاولة يتم بشكل"ألطف"! نعلم أن هذه الفكرة تطرح تساؤلات استغراب: أولاً: هل يعقل أن تتجاور إيران وأميركا في منظمة واحدة؟ وجوابنا: نعم، يعقل. فمشاركة إيران في دول الجوار العراقي - بين حالات أخرى - تتضمن تعاملها موضوعياً مع الوجود الأميركي المباشر والهائل على أراضيه إلى جانب وجودها هي فيه. والغزو الأميركي لأفغانستان كان تجربة مماثلة لإيران تعاملت فيها ايجاباً مع واشنطن إلى حد كبير، والمطلوب من الجانبين، الإيراني والأميركي، صراحة وشفافية أكثر في تعاطيهما، فلم يعد العالم ساذجاً كبعض جماهيرنا التي نبخل عليها بالحقائق! ثانياً: هل يمكن لدول الخليج العربية الدخول مع أميركا في ترتيبات علنية أمام شعوبها؟ وجوابنا: عليها أن تكف عن التظاهر بهذه"التطهرية"الشكلية لأن الطهارة في السياسة الواقعية لا يصدقها حتى السذج، وعلينا مرة أخرى، وفي جانبنا أيضاً، ألا نبخل عليهم بالحقائق! من دون حماسيات أو تطهريات، لماذا لا تبنى أسس التعاون الإقليمي بمشاركة القوى المعنية كافة كما حدث في منظومة الأمن والتعاون الإقليمي الأوروبي بالأمس، وكما يحدث في منظومات الأمن والتعاون الآسيوي اليوم؟ وللاستفادة من تجارب الآخرين، فإن الدول الأوربية ظلت تتفاوض لسنوات بمشاركة الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي - معاً - إلى أن اتفق الجميع في أول آب أغسطس عام 1975 في هلسنكي على توقيع اتفاق"الأمن والتعاون"القائم على تأكيد الاعتراف بالحدود السياسية القائمة في القارة الأوروبية كشرط أساسي لا بد منه لبناء الثقة وتجنب التدخل في الشؤون الداخلية ثم الانطلاق من ذلك إلى مشاركة الجميع في بناء المستقبل. ولن يستطيع أي راصد لحركة الوحدة الأوروبية أن يتجاهل هذا الاتفاق بين الأضداد في أوروبا كمنعطف نحو تحقيق وحدتها. ومن تجربة حيّة في بناء علاقات الثقة على أساس تثبيت الحدود القائمة، فإن الحل الذي توصلت إليه محكمة العدل الدولية بين البحرين وقطر، والمستند إلى هذا المبدأ المهم، قد فتح طريقاً غير محدود من التعاون البناء بينهما لصالح شعبيها والتنمية المشتركة لصالح دول المنطقة كافة. وهو ما يعمل من أجله قائدا البلدين من هذا المنطلق. وستكون له من النتائج العملية ما يثبت صواب المبدأ وضرورته. منذ عام 1993، وفي ندوة استراتيجية بمركز الخليج للدراسات الاستراتيجية في أبوظبي برعاية الشيخ محمد بن زايد ولمناقشة كتاب"مقاتل من الصحراء"للأمير خالد بن سلطان، دعا كاتب هذه السطور إلى مثل هذا التفاهم الاستراتيجي الواسع بلا استثناء أو استبعاد لأي طرف صاحب مصلحة في الخليج أو صاحب قدرة على تفجير أوضاعه! وللأمانة فإن أصل هذه الفكرة كانت تتوارد في رؤى فرنسية بشأن أمن الخليج الأمر الذي يدل على أن مثل هذا التوجّه وارد في التفكير الغربي العملي والواقعي وليس مجرد حلم من أحلام اليقظة الخليجية. ولكن بلا أوهام فإنه ما زال حلماً بمنظار الأوضاع المتردية في علاقات دول المنطقة، وانعدام جسور الثقة بينها وعدم امتلاكها لخطاب وتعامل متكافئ ومقنع مع القوى الدولية الضاغطة... إلى أن تدق ساعة السلوك الاستراتيجي المسؤول لدى من يعنيهم الأمر، وتتعلم كيف تعقلن خلافاتها للالتقاء حول قواسم مشتركة لبناء جسور الثقة في ما بينها. غير أن التطورات المتلاحقة في عالمنا يمكن أن تقلب الكثير من القناعات السائدة من أجل عقلانية أفضل. وبلا شك فإن تسوية المسألة النووية بين إيران والآخرين، وإلغاء خطط الضربة العسكرية لها بالمقابل، سيحقق التهدئة المؤدية إلى التوافق. فلن تكون ضمانة لأمن الخليج إلا إذا توافق عليه"المتصارعون"اليوم بداخله... ومن حوله! ولعل في نموذج اجتماعات دول الجوار التي انعقدت في عدة بلدان مجاورة للعراق، آخرها تركيا، ما يؤمئ بفكرة التوافق الإقليمي الذي يمكن سحبه على منطقة الخليج الأوسع وصحيح أن الولاياتالمتحدة من غير المشاركين مع دول الجوار العراقي، إلا أنها موجودة في العراق ذاته، وهي بالتالي حاضرة موضوعياً في مداولات دول جواره... وفي اعتبارها السياسي! ومعلوم إن إعادة ترميم جسور الثقة سيتطلب وقتاً غير قصير وجهداً غير يسير. ففي تصور أشمل - كهذا - لأمن الخليج، يمكن للعرب أن يخشوا تفاهماً أو "صفقة "أميركية - إيرانية على حسابهم، والعكس صحيح حيث يمكن لإيران أن يساورها الشك ذاته. وليس من حل إلا الشفافية المطلقة والضمانات الأمنية المؤكدة من الجانبين وإثبات حسن النية بالفعل لا بالقول. ومثل هذه الشكوك غير مقتصرة على الجانبين وحدهما. ففي الجانب العربي من الخليج يمكن للشيطان قبحه الله أن يوسوس بين الأشقاء، كما فعل ويفعل منذ بدء الخليقة! وإلى أن يتحقق ذلك فمن حق دول المنطقة - الصغيرة منها خصوصاً - أن تتخذ الضمانات الكافية لأمنها الاستراتيجي وكل تأخير في المبادرة إلى زرع الثقة من جانب جيرانها الأكبر يجعل هؤلاء الجيران مسؤولين عن التدخلات الأجنبية من جانب واحد كما نتج عن التهديد الصدامي لدولة الكويت وما جره من ويلات على شعبه وشعوب المنطقة. وعلى سبيل المثال فإن إيران - مثلها مثل العراق - موعودة بامكانات تنمية هائلة وخير عميم لشعبها. فهي تقع بين أغنى بحيرتين للنفط، من الخليج في الجنوب إلى بحر قزوين في الشمال. وإنتاجها المتوقع من الغاز، طاقة المستقبل، يدعم بقوة إنتاجها النفطي. وثمة مشروعات لتصدير الغاز الإيراني إلى دول الخليج وخصوصاً الكويت وسلطنة عمان. هذا فضلاً عن ثروات إيران الزراعية والسياحية والبشرية من الكوادر المتعلمة إضافة إلى تراثها الحضاري ومشاركتها المتميزة في الحضارة الإسلامية. وستكون خسارة فادحة وفرصة مهدورة للشعب الإيراني، ولشعوب المنطقة كلها، لو أن السياسة الإيرانية اختارت الإغضاء عن كل هذه الإمكانات الوطنية الهائلة وسلكت طريق المواجهة والإنفاق العسكري الباهظ والتغلغل الحزبي والاستخباري المكلف في ظل وضع اقتصادي راهن غير مريح للاحتياجات الشعبية الإيرانية وليس خافياً أن إيران بالإضافة إلى دولة الكويت وشركائها بمجلس التعاون هم أكثر من عانى من مثل هذا النهج الذي انتهجه صدام حسين، ويجب أن يكون عبرة لمن اعتبر، في ما يتعلق بمثل مغامراته الباهظة. فالعراق كان وما زال يملك من الامكانات والثروات الهائلة ما يفوق نفط الكويت، ولو أنه عرف كيف يستثمر ثرواته لما كان العراق اليوم في الحالة التي نراها. وما زال العراق، كإيران، يملك من امكانات الغنى الشيء الكثير ولعل حكوماته المقبلة تعرف كيف تنصرف للبناء الداخلي... هذا إذا تُركت لأن تفعل ذلك! وعلى عكس الانطباع السائد يمثل العراق اليوم في تقديرنا فرصة للتلاقي وإعادة التفاهم العربي - الإيراني، بعيداً عن الارتياب والثقة المفقودة وتوقع السوء كما كان الحال أيام حروب صدام. وكما أن إيران في منعطف الاختيار بين مسار التنمية أو المواجهة، فإن علاقاتها بالعرب، عبر العراق، في منعطف الاختيار بين التفاهم الأفضل أو تأكيد الارتياب في مخططاتها. والعراق اليوم هو ساحة الاختبار. ومثلما كان وادي الرافدين ساحة التفاعل الحضاري الخصب بين الثقافتين العربية والفارسية في ذروة الازدهار العباسي، بكل ما خلفه لنا وللإنسانية من منجزات مشتركة، فالمأمول أن يصبح عراق اليوم ذلك الملتقى الحضاري المتجدد، الذي من حقنا أن نحلم به رغم سحب الدخان الكثيف. ولإيران دور مهم في ذلك إذا تحررت من نوازع الهيمنة التي لم يعد يملكها جيرانها العرب... وإذا كانت تجربة الخطر العثماني قد جرتها إلى عهد صفوي لا يقل تخلفاً قبل قرون، فإن مثل هذا الخطر لم يعد قائماً وعالمها الإسلامي الواسع وغير المتمذهب ينتظر منها إسلاماً أكثر انفتاحاً وسماحة وقرباً إلى روح الإجماع. فهل تنجح في الاختبار؟ وهو اختبار ليس لها فحسب وإنما لجميع المعنيين في واقع الأمر بأمن الخليج إذا أريد أن يقام على ضمانات وأسس أكثر ثباتاً وأقوى حصانة ضد الحروب العبثية التي شهدتها المنطقة. مفكر وكاتب بحريني.