د. محمد جابر الأنصاري - جريدة "الجريدة" الكويتية جاء إعلان هلسنكي في أول أغسطس (آب) 1975 معبراً عن إنجاز «مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي» الذي تداعت إلى عقده والالتزام بمقرراته 35 دولة من دول المعسكرين الغربي والشرقي، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي (السابق) وبعض الدول الأخرى، وبدأت اجتماعاته في سبتمبر (أيلول) 1973 وتتابعت حتى يوليو (تموز) 1975 ثم تم الاتفاق عليه نهائياً في هلسنكي في الأول من أغسطس 1975، وذلك بحضور الأمين العالم للأمم المتحدة، ومشاركة مدير عام «اليونسكو» و«الأمين العام التنفيذي لمفوضية» الأممالمتحدة للشؤون الاقتصادية في أوروبا. وكان أهم ما اتفق عليه، في ما يتعلق بضمانات الأمن في أوروبا: احترام مبدأ السيادة المتبادلة والحقوق التي تتضمنها لكل دولة، مع الامتناع عن التهديد باستخدام القوة واحترام الحدود القائمة للدول وتسوية المنازعات سلمياً وعدم التدخل في الشؤون الداخلية؛ هذا مع احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بما في ذلك حرية التفكير والضمير والدين والمعتقد، وتأكيد ضرورة التعاون بين الدول، والعمل على بناء جسور الثقة بينها... إلخ وصولاً إلى حوار الحضارات وتشجيع تعلم اللغات من أجل تفاعل المشاعر وتبادل الأفكار، مع الاهتمام بمتابعة ما تم الاتفاق عليه. من يتأمل في بنود إعلان هلسنكي لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، التي ستبلغ من العمر الخامسة والثلاثين عاماً السنة المقبلة، يرى مدى قدرة الدبلوماسية المبدعة على إقامة عالم جديد هو التمهيد لما تتالى من تطورات جذرية وصولاً إلى دخول العالم عصر «العولمة» بمعناها الإيجابي، وبشفافية بلا مؤامرات موهومة... فعلى الرغم من أجواء الحرب الباردة والصراعات الإيدولوجية، استطاع العاملون من أجلها، على تجاوز ذلك كله وإرساء قواعد عصر جديد من الأمن المتبادل والتعاون المشترك، والتفاعل الإنساني المنفتح سيبقى معياراً تعود إليه الدول وإن تجاوزت حدودها بين وقت وآخر. وفي تقديرنا أن «الروح الجديدة» التي يحاول الرئيس الأميركي الجديد تجسيدها في سياسات بلده لا تفترق عن تلك المبادئ المتضمنة في «إعلان هلسنكي» 1975. وفي ظل المتغيرات الجارية اليوم بين الولاياتالمتحدةوإيران، والتي جرت بوضوح منذ الاحتلال الأميركي للعراق ولأفغانستان، والمكاسب الاستراتيجية المهمة التي جناها الجانب الإيراني من الحدثين، ومع تلك الروح الجديدة النابعة من «اللغة الدبلوماسية الناعمة» التي يستخدمها الرئيس الأميركي باراك أوباما حيال المسلمين ودول المنطقة على وجه الخصوص (وإن لم تتحول بعد هذه الأقوال إلى أفعال)، فإنه من الحيوي التفكير في آليات جديدة ومختلفة لترميم الوضع العام في حوض الخليج الذي عانت شعوبه في عقود متقاربة حروبا عدة بين أطرافه أكلت الأخضر واليابس، وأثرت قبل شيء في النفوس والأفكار. ولكن قبل الجلوس على طاولة واحدة بين مختلف تلك الأطراف للعبور من حالة العداء والكراهية وانعدام الثقة إلى حالة التعاون والسلم وبناء جسور الثقة المفقودة، فإنه من المهم للغاية التصدي لجملة عوائق تحول دون تحقيق هذا الهدف المشترك وتجعل المستجدات في المنطقة مثاراً للشك وانعدام الثقة من جديد، المسألة الأولى التي لابد من مواجهتها والتكلم فيها بصوت مسموع هل أن دول مجلس التعاون الخليجي... الصغيرة منها خاصة... تعتبر نفسها في خندق واحد وتشد أزر بعضها بعضاً بحيث يصبح المجلس ضلعاً واحداً بالفعل، يعكس التطلعات المشتركة لشعوبه، والوحدة الطبيعية لتكوينه، ويستطيع بالتالي المشاركة بفاعلية في تأسيس نظام الأمن والتعاون المنشود في حوض الخليج مع أضلاعه الأخرى القوية، وبالالتفاف حول المملكة العربية السعودية التي تمثل العمق الاستراتيجي لدول المنطقة؟ المسألة الثانية: خروج العراق من وضعه الراهن وبلورة ذاته كدولة متماسكة ذات دور وتأثير تسعى إلى أمن جوارها ورخائه المشترك. المسألة الثالثة: والأهم في تقديرنا تحول الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى المشاركة الإيجابية في استقرار حوض الخليج وتنميته– نهائياً– لمصلحة الشعب الإيراني، وبلا ريب فإن المواقف الإيرانية في المنطقة بعامة كانت مواقف إيجابية، إلا أن التجاذب بين خط الدولة وخط الثورة في إيران يؤدي إلى خلخلة الأثر الإيجابي لتلك المواقف وإلى بروز سلوكين ولغتين متناقضين هما مثار الشكوك في الخليج والوطن العربي حيال النوايا الإيرانية. والمطلوب، ضمن هذا المسعى الإقليمي الأوسع، أن تكون ثمة دولة مسؤولة في إيران تتعاطى مع الدول المجاورة ومع أطراف المجتمع الدولي. ولابد من الإقرار اعترافاً بالحق أنه رغم كل التخوفات الخليجية من الطموحات الإيرانية، فإن إيران لم تلحق بالجانب العربي ضرراً يوازي ما ألحقه نظام «عربي» كنظام «صدام» بالمنطقة. ولا يمكن لمنظمة الأمن والتعاون الإقليمي في الخليج أن تنحصر في هذه الأضلاع المباشرة، فثمة أطراف مؤثرة أخرى في شؤون المنطقة لابد من مشاركتها، وهي: الولاياتالمتحدة الأميركية، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والقوى الآسيوية الكبرى الثلاث الصاعدة: اليابان، والصين، والهند. هذا بالإضافة إلى الجامعة العربية بقيادة مصر ومشاركة اليمن والأردن المتاخمين لمجلس التعاون وكذلك سورية بدورها الإيجابي المتجدد، ومنظمة المؤتمر الإسلامي بحضور تركيا المقبلة استراتيجياً إلى ساحتها الطبيعية وكذلك باكستان وأفغانستان بحكم تأثير أوضاعهما في المنطقة، وبإمكان الأممالمتحدة ومنظماتها المختصة المساعدة في التحضير لهذا المؤتمر، مثلما أسهمت في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. نذكر هذه الدول كلها، على اختلاف سياساتها، فكل الخيول من بيضاء وسوداء تركض في مسار واحد، وعلينا ألا نخدع بالمظاهر والشعارات فثمة «معسكر بقاء» واحد كما قال هيكل أخيراً! وهنا لابد من الإشارة إلى إن محاولة إسقاط مصر من أي معادلة في الشرق الأوسط، وهي في هذه الحالة المعادلة الخليجية، لا يمكن أن تؤدي إلى توازنها. وربما كان الجيل العربي الجديد لا يدرك تماماً من تجاربه السطحية المحدودة عمق الدور المصري الرائد في العمل العربي، لكن هذا الدور الرائد من حقائق الجغرافيا والتاريخ التي ستبقى ماثلة ولابد من إدراكها... وتقدير العرب، كل العرب والمسلمين، لتضحيات مصر العربية مسألة أخلاق ووفاء قبل كل شيء. وكل ما جاء من حركات «مقاومة» هو روافد في حرب عربية شاملة كحرب أكتوبر 1973 بمشاركة مصر وسورية والعراق والمغرب– وقبلها التضحيات المصرية الكبيرة التي يقدرها كل عربي مخلص حق قدرها– فهي «المقاومة» الأم التي قدمت من التضحيات والجهد ما لم يتناسب مع الثمار السياسية التي جنتها. وذلك مرد سوء الفهم الحادث اليوم في الساحة العربية... للأسف. أياً كان الأمر، فقد حان الوقت للتفكير في كيفية إقامة منظمة الأمن والتعاون في حوض الخليج، والترحيب باقتراب الانفراج الأميركي–الإيراني والمشاركة فيه إيجابياً على طاولة الحوار المأمول ومعرفة شروطه وعدم التخوف، خليجياً وعربياً، من التوصل إلى «صفقة» على حساب العرب بين الولاياتالمتحدةوإيران، شريطة ألا يكون هذا التقارب «ثنائياً» وراء أبواب موصدة، حيث سيكون من الخطأ الفادح مستقبلياً واستراتيجياً الإصرار على جعله كذلك. وفي الخليج لدينا نواة تعمل من أجل تنميتها البحرين منذ سنوات في مؤتمرات «حوار المنامة» بحضور مختلف الأطراف المعنية، والتحدث– بحثياً– في قضايا المستقبل، وهي توفر في تقديرنا منطلقاً صالحاً لهذا المشروع الحيوي الكبير.