«الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    جدّة الظاهري    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنة ماياكوفسكي الشاعر "المستقبلي" المنتحر
نشر في الحياة يوم 24 - 05 - 2005

عندما أطلق فلاديمير ماياكوفسكي النار على نفسه في 14 نيسان ابريل 1930 في غرفته المعزولة لم يصبح للحين الشاعر الأشهر في الاتحاد السوفياتي فحسب، بل غدا انتحاره أشبه بالعلامة السوداء في تاريخ الثورة البولشفية. فهذا الشاب الذي سمّي"شاعر الثورة"والذي تحتفي به روسيا هذا العام في ذكرى رحيله الخامسة والسبعين، كان عرف في سنواته الأخيرة أحوالاً كثيرة من الأسى والاضطهاد والعزلة ناهيك بالحملات المغرضة التي شنّها ضده مثقفو النظام البولشفي والنقاد المحافظون والبيروقراطيون"المتسلطون"محاصرين إياه في دائرة خانقةقيت. وكان يكفي الموقف السلبي للزعيم البولشفي لينين من شعره، لا سيما"المستقبلي"النزعة، وقد وصفه ب"الصراخ"وسمّاه"صانع الكلمات المخادعة"، و"كل شيء لديه مبعثر وصعب الفهم".
وجه لينين اللوم الى مكسيم غوركي لانحيازه الى ماياكوفسكي ولاعتباره إياه صاحب موهبة كبيرة. ووجه لينين أيضاً أمراً الى مفوض الشعب لوناتشارسكي يقضي بتخفيض عدد كتب ماياكوفسكي المطبوعة. هذا الموقف العدائي شمل أيضاً التيار"المستقبلي"الذي كان شاعرنا أحد مؤسسيه وكاتبي بيانه الشهير:"صفعة للذائقة العامة". ودعا لينين نفسه الى مكافحة هذا التيار وإحياء حركة أخرى مناهضة له. إلا أن هذا الموقف العدائي لم يحل دون أن يرثي ماياكوفيسكي لينين في قصيدة حملت إسمه كتبها في الذكرى الأولى لرحيله عام 1925.
غير أن موقف لينين لم يكن هو الحافز الأول على انتحار ماياكوفسكي الذي لا يزال لغزاً غامضاً حتى الآن. ولعل ما كتبه عنه تروتسكي مفكر الثورة الآخر، في كتابه"الأدب والثورة"، استطاع أن يطغى على كلام لينين، وبدا تروتسكي مدركاً أسرار اللعبة الشعرية التي أرساها هذا الشاعر المتمرد، فهو، في نظره،"يملك موهبة كبيرة، بل ضخمة"و"هو يسيطر على الكلمة مثل معلّم مقدام يعمل وفق قواعد أوجدها بنفسه. إنه يملك بناءه الخاص، صورته الخاصة وإيقاعه وقافيته". ويضيف تروتسكي قائلاً:"جاء ماياكوفسكي الثورة عبر أقصر طريق، طريق البوهيميين المتمردين".
بدا تروتسكي في ما كتب عن ماياكوفسكي ناقداً أدبياً حديثاً ومنفتحاً على التيارات الجديدة وقد أصاب كثيراً في كلامه عن"الفردانية الثورية"لدى ماياكوفسكي، هذه النزعة التي ستميز هذا الشاعر عن سائر شعراء الثورة والواقعية الاشتراكية. وقد أدرك تروتسكي أن هذه"الفردانية الثورية"اعتنقت بحماسة الثورة البروليتارية من غير أن تتماهى بها. وقد يكمن في مثل هذا الكلام"الحكيم"أحد المفاتيح الأساسية التي تتيح الدخول الى عالم ماياكوفسكي، الرحب والغريب. هكذا يسمي تروتسكي الشاعر ب"الفرداني - البوهيمي"الذي"تمرد على الوسط الذي يعيش فيه"وواجه"الخضوع الأخلاقي والمادي". وكان تروتسكي من النقاد النادرين الذين عرفوا كيف يقرأون قصيدة ماياكوفسكي الرائعة"غيمة في بنطلون"معتبراً إياها العمل الأجرأ لدى الشاعر الذي كان في الثالثة والعشرين عندما كتبها. ويقول:"من الصعب الاعتقاد أن عملاً في هذه القوة والتماسك، وفي هذه الفرادة الشكلية أن يكون كتبه شاب في الثالثة والعشرين من عمره". ويمتدح في القصيدة الطويلة"القوة العضوية"و"الأصالة"و"هذا النحيب الطالع من عمق كيان الشاعر"و"الفرادة الخلاقة التي تجري مثل نبع متدفق...".
وأعرب تروتسكي عن تفضيله هذه القصيدة ومرحلة البدايات التي تنتمي اليها على سائر شعر ماياكوفسكي الثوري،وهذا موقف مهم جداً وفريد، كونه ناجماً عن أحد مفكري الثورة البولشفية. وما تجب الاشارة اليه أيضاً في هذا الصدد موقف ستالين الديكتاتور البولشفي من شعر ماياكوفسكي وهو مفاجئ بدوره وقد قال ستالين:"ماياكوفسكي هو أفضل شاعر وأكثر الشعراء موهبة في عصرنا السوفياتي وسيظل... واللامبالاة بذكراه وأعماله هي جريمة". لعل هذين الموقفين الصادرين عن زعيمين بارزين في الحركة الشيوعية استطاعا أن يعيدا الى الشاعر المنتحر جزءاً من حقه الثوري والشعري داخل الاتحاد السوفياتي وخارجه، في البلدان التي كانت تشهد حركة تحررية، وتمكّنا أيضاً من طمس موقف لينين واللجنة المركزية للحزب الشيوعي منه.
قد تكون هذه المقاربة خير مدخل الى عالم ماياكوفسكي الشعري والى تجربته الثورية الفريدة والخاصة والى انتحاره الذي وضعه في واجهة الشعر الروسي الجديد. فهذا الشاعر الذي وقف حياته للثورة الديسمبرية، وكرّس شعره لها لم تستوعبه الثورة ولم تعتبره من ابنائها المخلصين. وكان انتماؤه"المستقبلي"هو الذريعة التي تسلّح بها رفاقه"اللدودون"ليهاجموه وينفوه داخلياً ويحاصروه وينزلوا بهم التهم والشكوك. أما هو الذي كان"مستقبلياً"على طريقته - مثلما كان ثورياً على طريقته - فلم يتوان عن الدمج بين الغنائية والشيوعية في صميم تجربته"المستقبلية".
كتب ماياكوفسكي الكثير، قصائد ومسرحيات ومقالات، ورسم ومثّل وكتب السيناريو وأنشأ ما سمّاه"صحيفة الجدار"وأبدع في الفن الإعلاني، هو الذي لم يعش أكثر من سبعة وثلاثين عاماً. وقد دخل السجن مرات في مرحلة نضاله، وفي السجن كتب أولى قصائده وقرأ تولستوي وبوشكين ودوستويفسكي وبايرون وشكسبير. ثم قرأ لاحقاً والت ويتمان ورامبو وسواهما. وإذا درج النقاد على تقسيم مساره الشعري الى مرحلتين: مرحلة ما قبل الثورة ومرحلة ما بعدها، فهو، كشاعر، ظل واحداً، مثلما ظلت تجربته واحدة على رغم اختلاف المرحلتين سياسياً وثقافياً. إلا أن قصيدته الملحمية"غيمة في بنطلون"وقصيدته"إنسان"الملحمية أيضاً، تمثلان ذروة شعريته كما يجمع نقاد عدة. فيما يعتبر بعض النقاد أن شعره الثوري الذي كتب÷ قبل الثورة وخلالها وبعدها لا يرقى الى مرتبة شعره"اللاثوري"أو"المستقبلي". قصيدة"غيمة في بنطلون"كتبها ماياكوفسكي عام 1915 وكان عنوانها الأصلي هو"الرسول الثالث عشر"، لكن الرقابة حينذاك رفضت العنوان وحذفت ست صفحات من القصيدة. وكتب في مقدمتها يقول:"إنني أعتبرها بمثابة عقيدة الفن الآن". لم يبالغ ماياكوفسكي حتماً في هذا الكلام، هو الذي تمرّد على الشعراء"الرمزيين"الذين سيطروا على المعترك الشعري، وعلى الشعراء الانحطاطيين"المأخوذين بالجمالية التقليدية، فالقصيدة هذه كانت فعلاً الخطوة الأولى في حركة تجديد الشعر الروسي. وعندما قرأها ماياكوفسكي للكاتب مكسيم غوركي صيف 1915 أعجب بها كثيراً ووجد فيها نفساً جديداً وغير مألوف. ومثل غوركي ستعجب بالقصيدة الشاعرتان الكبيرتان أنا أخماتوفا ومارينا تزفتايفا والكاتب الرائد بوريس باسترناك.
كانت"غيمة في بنطلون"القصيدة الطويلة الأولى التي يكتبها ماياكوفسكي. قصيدة تبدو كأنها قصيدة حب ظاهراً وجوهراً، لكنها لن تلبث أن تشرع السبيل أمام النَفَس الملحمي،"المتقطع"كما يقول باسترناك، مرتكزة على البناء المتين والبعد الرؤيوي. واللافت أن الشاعر يستخدم فيها لغة أليفة جداً ويومية ومثيرة في الحين عينه. فهو يكتب وكأنه ينادي ويصرخ ويذمّ ويرتجف. وتتوالى الأبيات لاهثة، تنقطع أو تختنق ثم تنطلق من جديد، ثم تنبسط وتنقبض. صور غريبة وأصوات وتوقيعات تتدفق في سيل من الصور المستوحاة من الحياة والواقع والدين والذاكرة... كأن يقول في بعض مقاطعها:"ذلك الليل، لا عين هنا يمكنها اختراقه"، أو:"ها أنذا أبارك الطريق بالماء المقدس لدمي..."، أو:"أنظروا... السماء حمراء بدم المذبحة...". قصيدة غريبة حقاً وبديعة في تقاطع أجوائها وايقاعاتها وفي غرابة صورها وإلفتها.
بعد قصيدة"غيمة في بنطلون"سيكتب ماياكوفسكي ثلاث قصائد طويلة وذات نفس ملحمي وهي:"الناي الفقاري"1915،"الحرب والعالم"1917 و"إنسان"1917. وقد تكون القصيدة الأخيرة بمثابة"البيان"الشعري لا النظري الأهم للتيار"المستقبلي"الروسي. إنها قصيدة غنائية - ملحمية تمثل"النسق"الشعري الذي تميّز به الشاعر وهو"نسق"قائم على عناصر عدة مثل: الاستخدام الطاغي للقافية الذي يهدف الى احياء الكلمات والمفردات، التصاعد الإيقاعي المتدرّج الذي لا يبرح أن يتلاشى، اعتماد الغلوّ أو المبالغة والتورية والمفارقة والتناقض. اعتبرت هذه القصيدة ب"الساغا"أو الاسطورة الفانتاستيكية التي يعيش الشاعر فيها صراعاً داخلياً وعميقاً بين الأنا الغنائية والأنا الاجتماعية:"كيف لا أغني نفسي، أنا المعجزة الحقيقية"يقول، واصفاً نفسه ب"المبشر بميلاد الشمس". لكنه يدرك أن"نصف حياته"ولّى و"ها أنا سجين لا خلاص لي". تبدو القصيدة كأنها سيرة ذاتية ولكن متوهمة وغير تقليدية. في القسم الذي سمّاه"حياة"يتحدث طويلاً عن عجائب الانسان ويروي"فعل"الولادة ثم في القسم المسمى"الآلام"يسرد قصة حب خائب، فإذا هو"الشاعر - القديس"الذي يغني"صعوده". ثم في القسم المعنون:"ماياكوفسكي في السماء"يلوح فردوس مشبع ببهجة الموسيقى فيردي. لكن السأم سيحلّ به هناك ويدفعه الى العودة نحو الأرض ماياكوفسكي عائداً. وفي القسم الذي حمل عنوان:"ماياكوفسكي في العصور المقبلة"يعلن الشاعر يأسه صارخاً ويحدس أن الآخرين سيقولون عنه:"هنا قرب باب الحبيبة، قتل نفسه". وهذا الحدس سيتحقق بعد نحو ثلاثة عشر عاماً. لكن ماياكوفسكي كتب قصائد كثيرة، قصيرة ومتعددة الأساليب واللغات خصوصاً في مرحلة ما بعد الثورة التي وسمت شعره بالبعد السياسي والثوري، عطفاً على قصائد كتبها من وحي أسفاره الى أوروبا والولايات المتحدة ومنها قصيدته المهمة"على جسر بروكلين".
بدا انتماء ماياكوفسكي الى"التيار المستقبلي"الشرارة الأولى التي أشعلت نار المعركة بينه وبين السلطة الرسمية و"أبنائها"الشرعيين ونقادها ومثقفيها. طبعاً لم يكن ماياكوفسكي وحده في هذا"التيار"فهو ضم شعراء عدة ورسامين من أمثال: فيليمير خلبنيكوف وألكسي كروتشونيخ وإليناغور وفاسيلي كامينسكي وسواهم. وعندما أصدر هؤلاء بيانهم الشهير الذي ساهم ماياكوفكسي في كتابته أحدثوا ثورة في الحركة الشعرية والفنية إذ دعوا الى هدم قدسية التراث الكلاسيكي والى تحرير الشعر من وطأة الميتافيزيقا التي أرساها الشعراء"الرمزيون"والى جعل الشعر مرآة للحياة الجديدة والمعاصرة، وكذلك الى استبعاد"المصطلحات"الشعرية الجاهزة والعامة. ودعا البيان أيضاً الى خلق أشكال تعبيرية جديدة ولغة عصرية وحديثة، والى النزول من الطبقة السماوية الى الأرض. وسبق هؤلاء"المستقبليون"الجماعة السوريالية في الاحتفالات الغريبة وفي التظاهرات الفانتازية إذ تظاهروا مرة في الشارع مرتدين سترات برتقالية وقبعات من الحرير بغية صدم الناس، وقد وضع ماياكوفسكي في تظاهرة شهيرة ملعقة خشباً في صدره.
لم يكن الشعراء الروس هم الذين ابتدعوا هذا التيار الذي راج في أوروبا ما قبل الحرب الأولى وخصوصاً بين إيطاليا وروسيا. فالبيان"المستقبلي"الاول كان انطلق من ميلانو سنة 1909 وبدا عنيف اللهجة وغريباً وغير مألوف. ودعا الى"حب المخاطرة"والى إحياء"غريزة التمرّد"و"جمالية الحركة والسرعة"والى"الاثارة الغنائية"والثورة. ومدح البيان الحرب معتبراً إياها"علم الصحة الوحيد للعالم"، وكذلك"طاقة الجماهير"و"مظاهر الحضارة الصناعية"... ودعا أيضاً الى"التدمير المنظم لعلم العروض والنحو الترقيم والطباعة التقليدية"، ونادى بمبدأ"الجمالية المضادة". أطلع"المستقبليون"الروس على هذا البيان الايطالي قبل أن يصدروا بيانهم وأخذوا منه ما أخذوا مضيفين اليه البعد الثوري الذي استمدوه من الحركة الاشتراكية التي سبقت الثورة البولشفية. واستطاع ماياكوفسكي أن"يثورن"النزعة"المستقبلية"مرتكزاً على الغنائية التي طالما وسمت شعريته، فإذا به"مستقبلي"و"ثوري"في وقت واحد. وكان هو أعلن منذ أن كان سجيناً:"إنني أريد أن أبدع فناً اشتراكياً"، لكن هذا الفن توزع بين"المستقبلية"والشعر السياسي الذي كتبه ماياكوفسكي غداة الثورة، ووقع خلاله في فخ التحريض والحماسة و"التبشير"والبروباغندا والخطابية. ولم تخطئ مارينا تزفتايفا حين سمته ب"الشاعر ? الخطيب"، ولكن في المعنى الشعري للخطابة، وقد كتبت عنه في كتابها الشهير"الشاعر والزمن":"شاعر الثورة والشاعر الثوري ليسا شأناً واحداً. وحده ماياكوفسكي جمع بين الاثنين. الاثنان انصهرا فيه، فهو ثوري وشاعر". ووصفته قائلة:"إنه معجزة الزمن الحاضر، ذروة شعرية".
حاول ماياكوفسكي، انطلاقاً من نزعته"المستقبلية"أن يمنح معنى جديداً للواقعية يختلف عن المعنى"الاشتراكي"الذي أسبغته عليها السلطة البولشفية. وإن اعتبر نفسه"واقعياً"فإنما قصد تلك الواقعية"القوية"القائمة على ما يسميه ب"التعابير المضخمة والوقحة". وقد دمج المعطيات اللغوية والاسلوبية التي رسختها"المستقبلية"في مفهومه"الواقعي"ومنها مثلاً: التقطيع الايقاعي، اعتماد اللغة المحكية في بعض المقاطع، استخدام ايقاعات الحوارات الأليفة لدى الناس، الاقتراب من لغة الشارع وسواها. هذه العناصر أضافها ماياكوفسكي الى"الهم"اللغوي الذي جعله يتخطى اللهو والهذر اللذين عرف بهما الشعر الرمزي، وكذلك تعابير"الكآبة الأنيقة"التي تميز بها شعراء"الانحطاط". حينذاك كان في وسع ماياكوفسكي أن يقول جهاراً:"ليست الفكرة هي التي تولّد الكلمة، بل الكلمة هي التي تولّد الفكرة"، أو أن يقول أيضاً:"إنني أكتب لكم قصائد حادة وضرورية مثل المسواك". وصفة"الحدة"لم يدفعه الى اعتمادها سوى بحثه الدائم عن"الأثر الحاسم والسريع"للقصيدة، وقد رسّخ هذا"الأثر"سعيه نحو الأشكال والبنى اللغوية الجديدة والمتطورة. وقد لا يكون جَمْعُ ماياكوفسكي بين اللغة المشغولة والتي تتطلب جهداً و"توتراً فكرياً ونفسياً"واللغة اليومية أو الواقعية، ناجماً عن حال من التناقض، بل هو فعل مقصود منح شعريته الكثير من التعدد والتنوع. فهو الذي يتحدث عن"العذاب"الذي تعانيه"الحروف لكي تولد"يتحدث أيضاً عن"الشعب، ذاك الصانع الأقوى للغة، معتبراً أن وراء الشعراء"أمة من أبناء الشوارع والطلبة والعاهرات". على أن هذه اللغة، مهما انحدرت، تظل لغة الذات، هذه الذات التي يستحيل عليها أن تذوب في الجماعة مهما بلغ ارتباطها بها من قوة. وهكذا أيضاً كان يصعب على الضمير الفردي أن يتلاشى في الضمير الجماعي مهما انصرمت العلاقة بينهما. وهذه الميزة كانت أحد المآخذ التي سجلها عليه النقاد"الرسميون"فيما اعتبرها تروتسكي علامة فريدة مسمياً إياها ب"الفردانية".
عاش ماياكوفسكي حياة مأسوية وأليمة، بدءاً من دخوله السجن في فترة المراهقة وانتهاء بصراعه مع السلطة الثورية الجديدة والاضطهاد الذي لقيه ثم انتحاره معزولاً ووحيداً في غرفته، خائباً من الحب والثورة والحياة نفسها. ولم تكن حماسته الثورية واندفاعه إلا تعويضاً عن الخواء والعبث اللذين كانا يخالجانه، وكذلك السخرية والتهكم اللذان كثيراً ما رافقا أعماله، الشعرية والدرامية، لم يكونا إلا مواجهة للألم الذي كان يعتمل في داخله. في أيامه الأخيرة، عندما اشتد عليه الحصار وكثر منتقدوه بل شتّاموه كتب يقول:"أحلم في أحيان أن أرحل الى مكان ما وأعيش فيه سنة أو سنتين، فقط، كي لا أسمع الشتائم". وكتب قبلاً معلقاً على الحملات المغرضة التي قامت ضده:"نظراً الى طبيعتي المشاكسة علق بي كثير من الكلاب واتهموني بكثير من الخطايا التي اقترفتها والتي لم أقترفها". وقبل أن يقدم على الانتحار كانت الدولة رفضت طلبه السفر الى باريس للقاء حبيبته تاتيانا ياكوفليفا، وعندما لم يذهب تزوجت من سواه، وكان هذا الزواج خنجراً في صميم قلبه. وجاء انتحاره ليزيد من حجم"اسطورته"بل ليجعله أسطورة الشعر الروسي الحديث. هذه"الاسطورة"التي تغاضى الكثيرون عنها في مرحلة الحكم الشيوعي ما لبثت أن انتفضت بعدما سقط جدار المعسكر الاشتراكي. ولكن ليست الثورة التي آمن بها هي التي همّشته في حياته، بل زعماؤها التقليديون الذين سعوا الى قتل نزعته"الفردانية"وشعريته غير المألوفة وفرادته التي لم يعرفها الشعر الروسي من قبل. شاعر الثورة كان واحداً من ضحايا الثورة التي ساهم في صنعها، لكن ثورته كانت مثالية جداً ما جعل خيبته بها كبيرة جداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.