من بين جميع المبدعين المثقفين الذين كانوا حلموا بالثورة الاشتراكية وعملوا من أجلها، ثم ما إن اندلعت وحققت انتصاراتها الأولى، استعرت حماستهم لها، كان فلاديمير ماياكوفسكي يحتل الصف الأول: كان ثورياً أكثر من الباقين جميعاً، وكان يعلن اشتراكيته، اضافة الى تطلعه الى المستقبل الزاهر الذي كانت تلك الثورة الثورة البولشفية في العام 1917 وعدت به، ليس الشعب الروسي ثم السوفياتي وحده، بل شعوب العالم جميعاً. طبعاً نعرف أن آمال ماياكوفسكي سرعان ما خبت على ضوء الواقع الذي تمخضت عنه الثورة. ولقد وصلت خيبته الى درجة انه اختار في نهاية الأمر أن يموت انتحاراً، بعد أن وجد الدروب كلها مقفلة في وجهه وفي وجه أحلامه الثورية. حين انتحر ماياكوفسكي في العام 1930، أسوة بغيره من مثقفين متحمسين في البداية، انتحروا يأساً في النهاية ولا سيما حين استبد ستالين بالسلطة وتبخرت الآمال الثورية كلها على مذبح مصالح الدولة، تنوعت الأسباب التي قيلت لتفسير الانتحار: فقد كان هناك من قال ان أسباباً غرامية أدت به الى تلك النهاية، وكان هناك من توقف عند الأبعاد السياسية وغير ذلك. بيد أن الأكثر ادراكاً وتبصراً من بين باحثي حال ماياكوفسكي، كانوا أولئك الذين آثروا أن يبحثوا عن الأسباب والخلفيات في أشعار هذا الفنان الذي كان ويبقى واحداً من أكبر الشعراء الروس في القرن العشرين، وواحداً من أكثرهم ذاتية في الوقت نفسه، حتى وإن كانت ذاتيته لم تمنعه من أن يجعل من بعض أشعاره، مجرد دعاية سياسية للثورة التي آمن بها. ولكن، حتى في داخل هذه الأشعار"الثورية"، تلمس الباحثون ارهاصات نهاية ماياكوفسكي. ومن هذه الأشعار قصيدته الطويلة"عن هذا"التي كتبها في العام 1923 تحديداً، أي بعد عام واحد من كتابته قصيدة كبيرة أخرى له هي"أحب". والحال أن الباحثين يربطون بين القصيدتين ليتوقفوا عند الثانية على اعتبار انها تكاد تكون استكمالاً للأولى. لكنهم يتوقفون عندها أيضاً معتبرينها، من أول الأعمال التي عبر فيها ماياكوفسكي عن خيبته بالثورة، وبقدرة الحزب ودولته على خلق الإنسان الجديد الموعود، هما اللذان يبدوان - بالنسبة اليه - عاجزين حتى عن مساندة الإنسان القديم وتجديد آفاق حياته. والحقيقة أن تضمين هذه المعاني المشاكسة في قصيدة هي في الأصل غرامية إذ ان الأمر الذي يتحدث عنه عنوان القصيدة القائل"عن هذا..."انما هو الحب نفسه. ولكن ليس الحب بين الرجل والمرأة كما سنرى، هذا التضمين كان يعتبر جرأة من ماياكوفسكي، مبكرة، لكنه كان يعتبر أيضاً غريباً. إذ اننا نعرف ان العام 1923 نفسه الذي كتب فيه الشاعر هذه القصيدة، كان العام الذي انصرف فيه بكليته وبكل ما عنده من طاقة وحماسة، الى تأسيس حركة الثقافة اليسارية وتنشيطها، التي عرفت باسم"ليف"1923 - 1925 ثم باسم"ليف الجديدة"1926 - 1929... كما كان العام الذي بدأ فيه جملة جولات أوروبية وأميركية ألقى خلالها أشعاره وأشرف أحياناً على تقديم أعماله المسرحية، وخطب داعياً الى تأييد العالم ثورة بلاده ودولتها. وكان يبدو طوال الوقت مشدداً على كلام قديم له كان كتبه في العام 1914 وقال فيه"ان شعر المستقبل هو شعر المدينة... والمدينة المعاصرة تحديداً.... ان المدينة هي التي اثرت خبراتنا وانطباعات جديدة لدينا كان شعراء الماضي يجهلونها...". وهو كان يعني بهذا - قطعاً - فكرة الحداثة التي تمثلها المدينة، مؤكداً في الوقت نفسه أن بناء المدن - والحداثة بالتالي - هو ما يشغل بال"النظام الجديد". أما حركة"ليف"- ويعني اسمها اختصاراً ل"جبهة الفن اليسارية"- فقد كانت بدورها متطلعة صوب المستقبل، وكان من أبرز علاماتها، الى ماياكوفسكي، اشعار باسترناك، وسينما ايزنشتاين وفيرتوف ومسرح مايرهولد. وكل هؤلاء كانوا - في ذلك الحين - على حماسة شديدة للثورة وللمدينة وللحداثة في آن معاً. ومع هذا كله ها هو ماياكوفسكي يكتب، سبع سنوات قبل انتحاره، قصيدة"عن هذا..."التي، إذ ربطت لاحقاً من جانب دارسيه، بذلك الانتحار، بدت - كما أسلفنا - ممهدة له، مفسرة اياه قَبْلياً، بل منبئة بالمعركة الضخمة التي سيخوضها ماياكوفسكي ورفاقه ضد الامتثالية الستالينية، وأكثر من هذا: ضد حرف الثورة عن مسارها الأول، وتحويل الدولة الى مطية تركبها طبقة جديدة تفسد كل ما بناه الأولون. فما الذي تقوله قصيدة"عن هذا"؟ انها، مرة أخرى، قصيدة حب أولاً وأخيراً. وهي - على أية حال - القصيدة التي سيقول ماياكوفسكي دائماً انها الأكثر استجابة لتطلعاته الشعرية من بين كل أعماله، ولذا ظل حتى نهاية حياته راضياً عنها، يردد سطورها بفرح، ويقول رأيه في مقاطع كثيرة منها لمن يحب أن يسمع. في هذه القصيدة يتصور ماياكوفسكي انه قد أصبح دباً، يمخر عباب نهر"النيفا"على ظهر طوق جليدي يتقدم مع مجرى الماء ببطء ونعومة. وفجأة فيما الدب يقوم برحلته النهرية يرى فوق أحد الجسور،"الإنسان". الانسان الذي هو ماياكوفسكي نفسه. أي الإنسان الذي يتطلع الدب الذي هو أيضاً ماياكوفسكي الى ان يكونه، أي ان يولد في داخله. ان أول ما يلاحظه الدب هو أن"الإنسان"فوق الجسر في خطر - لعله يريد أن ينتحر - لذلك يود ان ينقذه... ان يقدم اليه مساعدة ما. غير ان ذلك يبدو له مستحيلاً. والسبب بسيط: ان المجتمع نفسه لا يبدي أي اهتمام بذلك الإنسان. لا يأبه لأمره ولا للخطر المحيق به. وهكذا، انطلاقاً من هذه الرؤية، يصيغ ماياكوفسكي مقاطع شعرية عدة تعبر، مباشرة عن خيبة أمله الكبرى، هو الذي يملأه ألماً أن يلاحظ كيف أن"الإنسان القديم"لا يزال موجوداً يعاني وسط ذلك"المجتمع الشيوعي الجديد والشاب". وفي هذا السياق، ها هو الحب يتدخل بدوره في مقاطع القصيدة قائلاً لنا على لسان الشاعر:"انني أعارض هذا الوضع كله. انني أمقته بكل ما لدي من امكان على المقت. ما هذا سوى ماضي العبودية المنغرز حتى الآن عميقاً في داخلنا جميعاً. ما هذا سوى نسغ التفاهات الحالّ والمواصل الحلول فينا. حتى اليوم، في ظل النظام ذي الراية الحمراء". ان مثل هذا القول قد يبدو لنا اليوم بسيطاً ومنطقياً، لكن علينا أن نضعه في اطار الزمن الذي كتب فيه لكي ندرك محموله. وعلينا أن نلاحظ كيف أن ماياكوفسكي، اختار شعر الحب لكي يعبر من خلاله عن الخيبة التي كان يستشعر بها. وهذا بالتحديد، ما جعل كثراً من دارسيه يرون في الموقف الذي عبر عنه في هذه القصيدة، جذور سنوات الخيبة التالية، حتى وان كان حاول أن يكابر، ويقارع يأسه عبر عمل ثقافي دؤوب خيل اليه في بعض الأحيان انه لا بد من أن يثمر يوماً... فإذا به لم يثمر أبداً... بعد أن انتظره سنوات طويلة. كان فلاديمير ماياكوفسكي 1893 - 1930 شاعراً وكاتباً مسرحياً وثورياً دائماً. وهو كتب قبل اندلاع الثورة، كما كتب بعد اندلاعها، وكان دائماً في صف الجديد والمستقبل. كتب مسرحيات تتسم بالبعد المستقبلي، كما كتب أعمالاً سيتبناها السورياليون لاحقاً. كتب أعمالاً للأطفال. كما كتب للكبار. وخلال القسم الأكبر من حياته ومن نضاله الأدبي، بعد نجاح"الثورة"، وجد لدى النظام الحاكم رضا عنه وتبنياً لأفكاره. غير ان الأمور راحت تسوء منذ رحيل لينين الذي كان خصه بواحدة من أقوى قصائده ومجيء ستالين الى الحكم. ومن أبرز ما كتب ماياكوفسكي، يمكننا ان نذكر هنا، مسرحيات مثل"الحمامات"وعروضاً احتفالية مثل"مستر بوف"وأشعاراً عدة يمكن اعتبار"عن هذا..."و"150 مليوناً"و"الإنسان"من أجملها وأقواها.