كانت الحقبة الستالينية في ذروتها في العام 1930، وكانت الخطة الخمسية الأولى تثير حماسة كثيرين وتحرك آخرين للعمل، ضاربين الصفح عن ممارسات ستالين وبدء عمليات التطهير. كان الناس والمناضلون وبخاصة المثقفون يشعرون انهم مقبلون على ما هو جديد، وداخلون عصراً تهون امام فراديسه التضحيات. وكان كثيرون منهم يشعرون بأن ثمة في الأفق ما يبشر بأن سنوات التعب السابقة بدأت تصل الى نهايتها، وان ازمان القطاف قد أتت. اذا كانت الحالة العامة هي هذه، وإذا كان الوضع قد ولد نوعاً من الأمل، فكيف حدث لشاعر العصر الثوري الكبير فلاديمير ماياكوفسكي، ان اختار زمن الذروة ذاك ليضع حداً لحياته ولحماسته الثورية بالانتحار؟ انتحر ماياكوفسكي يوم الرابع عشر من نيسان ابريل من العام 1930. حول انتحار ماياكوفسكي لا تقول لنا الادبيات الرسمية السوفياتية شيئاً كبيراً، بل وهي بالكاد تذكر انه مات انتحاراً، فان ذكرت فان انتحاره كان لأسباب عاطفية شخصية، ألم يكن هو ملتهب العواطف سريع التأثر؟ ومع ذلك ظهرت الحقيقة في بهائها: في عز حقبة الأمل الذي انبنى بفعل الخطة الخمسية الأولى، انتحر ماياكوفسكي وقد شعر بنفسه معزولاً وحيداً، خائباً محبطاً، وأحس بقدر هائل من المرارة من جراء الغدر الذي كان من نصيب الثورة، كما من جراء المناورات السياسية التافهة التي راحت تعصر الحياة السوفياتية. انتحر ماياكوفسكي في موسكو وهو في ذروة عطائه ولم يكن بعد قد تجاوز السابعة والثلاثين من عمره، هو الذي ولد في قرية بغدادي الجيورجية في العام 1893، وعاش هناك حتى العام 1906 حيث نزحت عائلته الى موسكو، وانضم ماياكوفسكي الى البلاشفة باكراً. فاعتقل مرات عدة وعذب مرات عدة ومارس العديد من النشاطات السرية قبل ان يبلغ الخامسة عشرة من عمره. وما ان حل العام 1912 حتى كان ماياكوفسكي قد أضحى مثقفاً دارساً للفن وأحد موقعي البيان الثوري الفني الشهير الذي حمل عنوان "صفعة على وجه ذوق الجمهور". وخلال السنوات التالية، ومن دون ان يتخلى عن نضالاته السياسية، راح يمعن في كتاباته ورسومه الثورية بالمعنى الفني للكلمة والتحريفية، مما جعله يصل الى تطوير أدب فردي رفيع المستوى، وشعر ذاتي عابق برائحة الجدة، من أبرزه قصائد مجموعته "غيمة في السروال" اوبلاكو في شتاناخ 1915. ماياكوفسكي كان من الذين رموا بأنفسهم في الثورة قلباً وقالباً، ومن اجل الثورة كتب اجمل اعماله "انسان" 1917 و"الحرب والسلام" 1916. وبعد انتصار ثورة اكتوبر، جعل ماياكوفسكي من نفسه ناطقاً باسمها في مجال الفن، فكتب العديد من المسرحيات الدعائية والقصائد ولا سيما قصيدته "مارش اليسار" 1919. ولكن ما ان حل العام 1922 حتى راحت اعماله تتسم بحس نقدي لاذع في فضحه للبيروقراطية جنباً الى جنب مع اعماله الاخرى التي مجدت الثورة ولينين. وهكذا كانت تناقضات الثورة/ الدولة قد بدأت تنعكس عليه، وهو عبر عن ذلك كله في بعض اجمل اعماله مثل "كلوب" 1929 و"الباتيو" 1930 وهما تشكلان هجوماً واضحاً على بيروقراطيي الحزب والثورة.