ليست مفاجأة ادبية ان يحصل جون بانفيل على جائزة بوكر بعدما كان ترشح لها من قبل وبعد 14 رواية طبعت الفن القصصي الإيرلندي بما يمكن تسميته"رائحة الضفتين"في معنى انه صهر النكهة الإنكليزية في المناخ الإيرلندي الهادر بالعاطفة والكآبة والصخب الحسي الشهير. صحيح ان المراقبين اعتبروه"فلتة شوط"حتى اللحظة الأخيرة، خصوصاً مع وجود اسماء يصعب تجاهلها مثل جوليان بارنز الذي كان متقدماً حتى المداولات الأخيرة، وسلمان رشدي وزادي سميث، ولكن خصوصاً كازو ايشيغورو الذي"هزم"بانفيل عام 1989 فائزاً بالجائزة عن"بقايا النهار"وكان في طليعة المرجحين هذا العام عن روايته"لا تتركني اذهب ابداً". كذلك كان من الصعب، باعتراف اعضاء اللجنة، تجاهل"السبت"رواية إيان مكيوان الرائعة التي سجّلت اقبالاً لدى القراء يوازي مديح النقاد. قال رئيس اللجنة جون ساذرلاند ان القرار اتخذ في دورة اخيرة وبعد جدل طويل وشاق قبل ان تقرر اللجنة بالإجماع منح بوكر 2005 لجون بانفيل عن روايته"البحر"كونها"دراسة نافذة للنقدان، والذاكرة والحب معاً". وتروي"البحر"قصة ماكس موردن الذي يبلغ مفترق طرق في حياته ويحاول التعامل مع عدد من الشؤون الصعبة والمؤلمة التي شكلت ماضيه، خصوصاً وفاة زوجته. ولذا يقرر العودة الى بلدة على شاطئ البحر حيث يمضي عطلة صيفية لا تنسى وهو فتى، في بيت يدعى"الأرزات"مع اسرة تدعى عائلة غريس، ترك افرادها اثراً عميقاً في نفسه. ويبدأ بانفيل روايته بهذه العبارة:"رحلت الآلهة يوم جاء المدّ الغريب". ولا يلبث المؤلف ان يضع بطله بين ايدي القراء، وفي الوقت نفسه تراه جاعلاً ماكس اشبه بمغناط خفيّ يسحب القارئ الى لقاء الأب والأم والأطفال في عائلة غريس، خصوصاً التوأمين مايلز وكلوي، وكيف انغمس الفتى عاطفياً في تلك الأسرة:"جلّ الحياة كان ثابتاً في تلك الأيام. كنا صغاراً، او هكذا يبدو الأمر اليوم. هدوء متباطئ، وشعور بالترقب، كنا ننتظر داخل عالمنا الذي لم يكن اكتمل، نتفحص الغد، كما كنا الصبي وأنا نتفحص واحدنا الآخر، مثل جنود في المعركة، بانتظار الآتي". هناك في اسلوب بانفيل سيطرة تبلغ حدّ البطش احياناً. كل عبارة، وإن بدت سهلة المنال للوهلة الأولى تجبرك على العودة إليها لو طالعتها بلا تمحص وانتباه كاملين. صحيح، احياناً يجبرك بانفيل على الرجوع الى القاموس لا لأنه يغرف من اللهجة والمصطلحات الإيرلندية وحسب، بل لأنه يقارب اللغة الإنكليزية عموماً بلا اعتبار للحدود بين ما هو مستعمل راهناً وما عفّى عنه الزمن، المهم بالنسبة إليه ان تؤدي اللغة دورها التبليغي في الدقة التي يتوخاها،"الماضي يخفق في داخلي مثل قلب"في سبع كلمات، ينهي الكاتب مقطعاً طويلاً استعادياً تمر خطراته في ذهن ماكس، ثم نرى ماكس يتفقد المكان موازياً بين الماضي والحاضر في تدرج تصويري يخطف الأنفاس:"من هنا كنت ارى عبر الحديقة الضيقة وراء البيت صفاً طويلاً من الأشجار في محاذاة خط سكة الحديد - والآن راحت تلك الأشجار، قُطعت وأقيمت مكانها صفوف بيوت كبيوت الدمى - وفي البعيد، في عمق المسافة على امتداد السهول كانت ابقار ترعى، وبقع من العشب الأصفر، وأشواك وأجباب شجرية، وقبة كنيسة عالية، فوقها السماء مدرّجة بالغيوم". المشكلة الأساسية في هذه الرواية هي انعدام السياق في كل اشكاله المنطقية. فالأعمار والسنوات والأزمنة والحالات تتداخل وتنفرط لا يضبطها سوى التحكم الحازم ببنية العبارة. عدا ذلك على القارئ ان يتعلم نوعاً جديداً من السباحة في بحر جديد تماماً ابتكر مياهه وأسماكه وتياراته جون بانفيل. وعن هوس الرواية بهاجس الموت يقول بانفيل:"في الأدب يبدو الهاجس المذكور اقوى وأكثر حضوراً مما هو عليه في الموسيقى او في الرسم وذلك عائد الى الأداة المستعملة للتعبير: الكلمة، فهي لا تترك مجالاً للتأويل او الفرار". ويذكر بانفيل ان الفكاهة السوداء التي يلجأ إليها بطله احياناً في وصف اللحظات الساكنة، ذات الهدوء المسكون بألف ذكرى وذكرى، هي النافذة التي يتنفس منها القارئ، مع انها تخالف في كثير من الأحيان النمط الروائي المستتب منذ القرن التاسع عشر حيث الدقة في الوصف الواقعي هي العنصر الأهم.