فيما يتحول النشر عبر العالم الغربي الى صناعة ذات مواصفات محددة يتحكم بها سوق العرض والطلب أكثر مما تعود اختياراتها الى المبدعين أنفسهم، نلاحظ في الرواية الانكليزية عموماً ميلاً فائضاً نحو التهكم والسخرية، وإقبالاً متزايداً على هذا التيار من جانب القرّاء. فالانكليز، منذ ثاكيري وشكسبير وتشوسر، عرفوا بميولهم الجامحة الى الهزء بالواقع، وتشريح الشرط الإنساني بصورة لا تخلو من اللعب المتقن، ناهيك عن بهلوانية صارخة بدأت تترسم كمنحى تعبيري ساد الساحة الأدبية في الحقب الثلاث المنصرمة. في قصة قصيرة بعنوان "كمال" لفاليري بلومنثال نتحرّى قوة السخرية المذكورة ضمن إطار رومنطيقي - واقعي يعزز الأوهام الرومانسية ثم لا يلبث أن يهدمها بضربة ولا أقسى. في محل لبيع الأزهار عاملتان شابتان وصاحبة المحلّ التي يكاد شبابها ان يكتسي بالشيب. وذات يوم يتلقى المحلّ اتصالاً هاتفياً يطلب فيه صاحبه، بصوت مثير، اختيار باقة مناسبة لقصة حبّ في بدايتها، يناقش المسألة بحذق ولطف وإغواء مستتر ويسلّم أمره وعنوان محبوبته الى صاحبة المحل التي تشعر بفيض من الغبطة لذلك الفارس الرومنطيقي. وفي اليوم التالي يتصل الغاوي نفسه ليشكرها على ذوقها الرفيع، مضيفاً ان الباقة التي اختارتها أدّت دورها المطلوب كما يجب وكم كان ذلك رائعاً. ويوماً بعد يوم، باقة إثر باقة، تتغير حياة صاحبة محلّ الأزهار! تلمسها قصة الحب الرومنطيقية على الطرف الآخر للهاتف الى حدّ أنها تسأم زوجها ورفيق دربها وتتبرّم بحياتها الروتينية المضجرة. وذات يوم يتصل بها روميو الباقات ذو الصوت الساحر والأسلوب الآسر ليقول: "حضّري باقات العرس!" أواه ثم أواه كم تتأثر صاحبة المحل، بل تكاد أن تطير فرحاً وتقوم بعمل هائل الروعة من ترتيب وهندسة فكأنها تزيّن عرس أحلامها المحبطة. وخلافاً لكل التوقعات البليدة يستمر سيل الباقات حتى بعد شهر العسل على وتيرة باقة كل أسبوع. بعد سنة على هذه الحال تفاجأ صاحبة محل الأزهار بانقطاع الاتصالات وتبدأ بالتفكير في أن كل شيء له نهاية وانهما لربما انجبا وانشغلا بالمولود الجديد، الى أن تمسك بصحيفة الصباح وتكتشف الحقيقة المرعبة: محتال أغوى مليونيرة وتزوجها ثم قتلها طمعاً بمالها. وكان ذلك المحتال هو نفسه محرّك الأحلام الرومانسية لدى صاحبة محل الأزهار التي هرعت الى زوجها المسكين وعانقته. السخرية تجري في عروق الكاتب الانكليزي. ديفيد لودج، جوليان بارنز، ويليام بويد، مارتن ايميس، جوناثان كو، وفي مجالين مختلفين ويل سيلف وجون لوكاريّه، وغيرهم. حيثما التفتنا نجد أن التهكم يشكّل العصب السيّار في الصورة الروائية الانكليزية، فقد أكمل ترولوب وديكنز وأوسكار وايلد ما كان بدأه ثاكيري من كشف ذريع للتخابث الاجتماعي وجاء برنارد شو ليقوّي عناصر الفضيحة ويجعلها شبه بصمة انكليزية إن لم نقل وصمة. الفارق بين توجهات الكتابة الانكليزية ونظيرتها الأوروبية انها تستهدف القارئ مباشرة، لا المثقف أو الجامعي. و"القارئ" في هذا المجال قد يكون عامل بناء ترك المدرسة باكراً أو أستاذ الفلسفة في كيمبريدج، وأي نص لا يستحوذ على اهتمام الطرفين وفضولهما يتعرّض إما للإهمال أو لضربة نقدية كثيراً ما تكون قاضية. "أهلا بكم في النادي" رواية جوناثان كو الأخيرة محاولة جادة لكتابة ملحمية النفس على طريقة ديكنز، يتناول فيها الكاتب بريطانيا السبعينات ونشأته في مدينة بيرمينغهام حيث ولد عام 1961 ولا يواري كو المحتوى الشخصي في روايته، فبطله بنجامان تروتر يشبهه في النشأة والسمات النفسية، يعيش في كنف عائلة نموذجية منفتحة ترسخت في المكان وقلّما خرجت من محيطها. والحال نفسها في رواياته السابقة مثل "بيت النوم" أو "شهادة انكليزية" كلها مستقاة من الواقع المعيش الموثق، وتحمل اسقاطاً هازئاً يراوح بين التهكم والسخرية الرمادية. ناقد اجتماعي من الدرجة الأولى، تصدّى كو للثاتشرية وشرَّح في "أهلاً بكم في النادي" مرحلتي الستينات والسبعينات، وهو ينظر بتقزز واضح الى مرحلة توني بلير الذي يتبع سياسة الرئيس بوش على عماها، بحسب قوله. ولا ننسى الأثر الطاغي لغراهام غرين على الجيل الثاني من الروائيين الانكليز. تحرّياته المعمقة في الشرط الإنساني، داخل حدود الجزيرة أو خارجها، أورثت جون لوكارّيه نوعاً من الفن الروائي لا قرين له، يجمع الى الأدب إثارة التشويق واشكالات الصراعات السياسية حول العالم، ويحمل في طيّاته أحياناً استشرافات مذهلة لما ستكون عليه الأمور في المستقبل. وهو في كل هذا لا يغفل سلاح التهكم العميق الذي يبلغ حدود الضراوة في بعض الظروف. مع صدور "البرتقالة الآلية" لانتوني بورجيس وتحوّلها الى فيلم من توقيع العبقري الراحل ستانلي كوبريك دخلت الرواية الانكليزية فلك المزج الغرائبي بين المتخيّل والسوريالي، لكن من دون أن تفك ارتباطها الوثيق بالواقع. وباتت أعمال السوداوي الثاقب إيان مكيوان، والمتأرجح بلا اهتزاز بين التاريخي والتسجيلي ويليام بويد، وفيرة كالخبز بين أيدي القرّاء، تارة تحيّر النقاد وطوراً تذهلهم. والحقيقة ان القواسم المشتركة بين كل هذه الأعمال وغيرها، خصوصاً اللاذع بجفاف وشقاوة مارتن ايميس، كون الرواية الانكليزية تركّز على الإنسان كظاهرة فريدة تدعو الى التأمل قليلاً والتصوير كثيراً أي بأقل ما يمكن من التفلسف وأكثر ما يمكن من الرويّ. ومن هنا ازدهار الرواية واندحار الفلسفة في الثقافة الانكلوسكسونية الحديثة.