«أقيم الدعوى القضائية باسم موكلي لأن هذا الفيلم أحزنه وجعله يشعر بالمرض». قائل هذا الكلام هو المحامي الفرنسي جان فايل، أما موكله فهو الوزير السابق دومينيك ستروس - كان الذي يعيش مطمئناً مع زوجته المغربية الجديدة مُذ خيّل إليه أن المحاكم برأته من تهمة التحرش الجنسي التي وجهتها إليه خادمة فندق نيويوركية قبل ثلاث سنوات، وهي التهمة التي دمّرت مساره السياسي ودمرته نفسياً وأخلاقياً في حينه. أما الفيلم الذي يذكره المحامي فهو آخر ما حققه المخرج الأميركي الاستفزازي آبيل فيرارا وعنوانه «أهلاً بكم في نيويورك». وعلى رغم أن الفيلم لم يُقبل في أي من تظاهرات «كان»، فإن حكاية الدعوى القضائية التي تدور حوله «كانيّة» بامتياز، ذلك أن فيرارا، واحتجاجاً على رفض «كان» إدراج الفيلم في برامجه، عمد إلى عرضه في قاعة خاصة لمرة واحدة قبل أن يطلقه على اليوتيوب فيشاهده مئات الألوف خلال يومين. يشاهدون الفيلم؟ بالأحرى يشاهدون جيرار ديبارديو عارياً في مشاهد فاضحة، وهو يؤدي دور المسؤول السياسي جورج... وإن تساءل القارئ هنا عن علاقة هذا كله بستروس - كان وحكايته فسيأتي الجواب بسيطاً: جورج في عهره وعريه وكل ما يمثل إنما هو قناع سينمائي للوزير الفرنسي السابق، يختلف عنه في الاسم فقط! من هنا، كان العرض «الكاني» للفيلم «فضيحة» لم يتحملها ستروس - كان، فكان اللجوء إلى المحاكم تعبيراً عن «انهيار» الرجل حين رأى ديبارديو يحاكي فعلته في شكل إباحي مؤكداً له أن السينما - بين أمور أخرى - لا تريد للماضي أن يموت. صحيح أن ديبارديو علق على «فعلة» مواطنه الوزير القضائية ساخراً بمرح، وأن فيرارا احتج بأنه «مواطن أميركي حر وفنان يستقي مواضيعه من حيث يشاء»، لكن القضاء سيتحرك بالتأكيد بعدما أعادت السينما الماضي إلى الحياة. فالماضي لا يموت، وهو قول كان أكده واحد من كبار المخرجين المشاركين في المسابقة الرسمية، الكندي دافيد كروننبرغ، في فيلمه الأسبق «تاريخ من العنف»... أما في فيلمه الجديد الذي عرض في «كان» من دون أن يقنع كثراً «خريطة إلى النجوم»، فإنه يقدم حكاية فضائحية بدورها مسرحها هوليوود، إحدى أساطير الحلم الأميركي الكبرى، ومحورها انهيار النجوم، وأداتها نساء على حافة الانهيار العصبي وفي شكل يفوق خطر انهيار ستروس - كان، ومنهن نجمة آفلة تستجدي لتلعب على الشاشة دور أمها الراحلة في حبكة تكشف زيف الأسطورة وحلمها الأميركي، وسط بحر من الدم والجنون غير المعتادين في الأفلام التي تتخذ من السينما موضوعاً لها. نادراً ما صوّر فيلم هوليوودي نجماته منهارات إلى هذا الحد. غير أن هذا يبقى على الحافة، على رغم الدم والجرائم، مقارنة بالانهيار النسوي الفعلي الذي صوره الممثل/ المخرج تومي لي جونز في ثاني أفلامه الروائية الطويلة، فيلم «ذا هومسمان»، المشارك في المسابقة والذي نال تصفيقاً لا بأس به وترجيحات عدة للسعفة على رغم خطّية حبكته وسياقه المتوقع من دون مفاجآت. القوي في هذا الفيلم هو موضوعه الذي يأتي متناقضاً مع نوعه. فالفيلم في سطحه عمل آخر عن الغرب الأميركي ورعاة البقر. لكن مخرجه، على خطى صديقه وأستاذه كلينت إيستوود، أتى لينسف أسطورة الغرب، من خلال بطل سكير بائس ونساء أصبن بالجنون تحت وطأة المآسي العائلية والانهيار الاجتماعي الذي يطاولهن من دون الرجال. المطلوب الآن نقلهن إلى مأوى في بلدة بعيدة، وهذا النقل يتولاه البطل السكير في رعاية عانس ثرية فاعلة خير لا تفتأ تستجدي الرجال أن يتزوجوها، ما يفقدها هي الأخرى توازنها ويدفعها إلى الانهيار خلال الرحلة التي يصورها الفيلم. في اختصار، يريد الفيلم أن يبلغنا أن الأساطير الحقيقية ليست أحلاماً وردية، بل كوابيس مدمرة، وأن النساء المكافحات في «الغرب» الذي أعادت السينما تصنيعه بأبهة طوال قرن، لسنَ الدمى الفاتنات اللواتي نعتقد، بل كنّ ويبقين ضحايا على حافة الجنون والموت. نجح الفيلم في التعبير عن ذلك، إنما من دون مفاجآت حقيقية ما أفقده نسغاً كان يمكن أن يحمله... ربما لو كان بطله غير مخرجه.