يمثل المخرج جيم جارموش امتداداً جميلاً للسينما الأمريكية المستقلة التي كانت قد انفجرت في وجه استوديوهات هوليود مطلع السبعينات على يد جون كاسافيتس ورفاقه, وإذ يوجه جارموش عنايته بالجانب الجمالي في أفلامه التي قدمها منذ العام 1984, إلا أنه –في المقابل- يقدم نظراتٍ في الحياة تضاهي ما قدمه المخرجون أصحاب النزعة الفلسفية الصريحة أمثال كيسلوفسكي وبيرغمان وتاركوفسكي. وأوضح أفلام جارموش في هذا الجانب, فيلمه الجميل (أزهار محطمة-Broken Flowers) الذي قدمه عام 2005 ليحكي من خلاله قصة رجل عجوز يقرر البحث عن النساء اللواتي ارتبط بهن في فترة شبابه. ويؤدي هذا الدور الممثل بيل مواري صاحب الإطلالة المميزة والباردة!, ويشاركه البطولة كل من شارون ستون, جيسيكا لانغ, تيلدا سوينتن والفرنسية جولي ديلبي. المعروف عن جارموش أنه مخرج فنيّ جمالي يهتم بشكل الصورة وأسلوب السرد أكثر من أي عنصر آخر, وهو يقدم في أفلامه قصصاً عادية لكن بأسلوب مختلف وجريء, فمثلاً في أول أفلامه (أغرب من الجنة) يختار قصة بسيطة لفتاة تسافر إلى مدينة جديدة ولا شيء غير ذلك, سوى الأسلوب المميز –والاستعراضي- الذي صوّر به هذه القصة, حيث قام بتصوير كل مشهد كاملاً بلقطة واحدة دون قطع. وتبرز هذه الجمالية الشكلية في أفلامه: Down by Law 1986, (رجل ميت) 1995 مع جوني ديب وآخر أفلامه (حدود التحكم) 2009. لكنه في فيلم (أزهار محطمة) سيمزج جمالية الأسلوب بإنسانية القصة ودفء المعنى الذي يمكن استخلاصه من غوص الإنسان في ماضيه البعيد. هنا تأتي رسالة إلى رجل عجوز من إحدى النساء اللاتي ارتبط بهن في شبابه تُخبره فيها أن ابنه قادم إليه, ولأن الرسالة لا تحمل توقيعاً صريحاً فإنه لا يعرف من هي صاحبة الرسالة, لذا يقرر البحث عن نسائه القديمات لكي يعرف الحقيقة, وينطلق في رحلة مؤلمة مع الماضي والذكريات. لقد استغل جارموش هذا الحدث البسيط ليقدم تساؤلاً يشغل بال الإنسان في كل مكان, عن الأصدقاء والزملاء القدامى الذين ارتبط بهم في مرحلة الطفولة .. أين هم الآن؟. وما هي خلاصة تجاربهم في الحياة؟. هل حققوا طموحاتهم أم سقطوا مع الساقطين؟. ومن خلال رحلة العجوز, نرى كيف اختلف مصير هؤلاء النسوة, فإحداهن تعاني الفقر, والثانية محبطة, وثالثة ماتت, غير التي نالت جانباً من ثروة, وتلك التي تعيش حياة باردة باهتة بلا عاطفة. وهذا رغم أنهن انطلقن من نفس النقطة ومن نفس المستوى الاجتماعي في فترة شبابهن, ومع ذلك فقد اختلف مصيرهن في النهاية, لأن لكل منهن تجربتها الخاصة في الحياة, ولكل تجربة مسارها الخاص الذي يفضي إلى نتيجة خاصة. جيم جارموش يعرض في فيلمه هذا تجربة في الحياة, ويجبر المُشاهد على التفكير في زملائه القدامى, مُشعلاً الرغبة والفضول لمعرفة أين انتهى بهم الحال. ولن تكون هذه المرة الوحيدة التي سيطلق فيها مثل هذه التساؤلات الإنسانية المُفعمة بالحنين والألم, بل سيفعل مثل ذلك في فيلمه الآخر الرائع (ليلة على الأرض-Night on Earth) الذي قدمه عام 1991 مع وينونا رايدر والإيطالي روبيرتو بينيني.