هل إن بناء مستقبل جديد للبنان، صار اليوم أسهل مما كان عليه في العام 1943، عام الاستقلال؟ ان السذاجة العاطفية التي تطبع أحياناً التفكير في لبنان، جعلت الاعتقاد سائداً بأن هذا الامر قد أصبح شبه محتوم. ولكن، اليوم وقد استفقنا من نشوة 14 آذار مارس، عادت التباينات المحورية القديمة لتظهر، شأنها شأن الحسابات الدنيئة التي يقوم بها عدد كبير من رجال الطبقة السياسية اللبنانية. فالجمهورية اللبنانية المتحررة من القبضة السورية تعكس اليوم صورة"الجمهوريات اللبنانية المنقسمة". كل قطب من أقطاب المعارضة يذهب في اتجاه، فيقوم برحلاته الى الخارج بمفرده كما يفعل الكبار. والحسابات الانتخابية الصغيرة تمحو من البال المبادئ الكبيرة التي ينبغي أن توجه مستقبل لبنان، هذا لو افترضنا أننا، في السنوات الخمس عشرة الماضية، قد طوّرنا أي تفكير في هذا المجال. وفي هذه الأثناء، من منا لا يرى ان لبنان يتحوّل الى دولة تحت وصاية الأممالمتحدة حيث الولاياتالمتحدة وفرنسا تقودان اللعبة وتحلان محل اللبنانيين المنقسمين، في اتخاذ القرارات الحاسمة. ولن يُصاب أحد اليوم باليأس سوى أولئك الذين غرقوا في تفاؤل ساذج عبّر عنه بعض رجال السياسة الذين مارسوا إرهاباً فكرياً قوياً حال دون اعتماد التفكير الرزين، وخصوصاً في ما يتعلق بمسؤوليات النومنكلاتورا اللبنانية، في كل انتماءاتها تقريباً، في هذه الهيمنة السورية التي خدمت مصالحها المادية الخاصة ليس إلا. في الواقع، يحتّم علينا بناء المستقبل ان نحكم على الماضي، ماضٍ ما زالت نتائجه تلاحقنا، لا سيما في المجالين الاقتصادي والمالي. ما معنى ان نحكم على الماضي؟ معناه ان نسأل أنفسنا عن الأسباب التي قسّمت اللبنانيين في تاريخهم المعاصر، علّنا نتأكد مما إذا كان عنصر الخلاف الأساسي قد زال فعلاً، والحساسيات السياسية اللبنانية موحدة فعلاً أو شبه موحدة، حتى نتمكن أخيراً من بناء مستقبل أفضل. فاللبنانيون الذين أظهروا مرونة كبيرة طوال 13 قرناً من العيش المشترك، لم يظهروا المرونة نفسها حول نقطتين أساسيتين: العلاقة بالمحيط الإقليمي أو الدولي وتوزيع السلطة الداخلي. والرابط بين هاتين النقطتين ما هو إلا طائفية النظام السياسي. في الواقع، لم يتخاصم اللبنانيون حول وضع الحجاب أو تعدد الزوجات أو أشكال التقوى الدينية، ولا حول الاختلافات في الأحوال الشخصية، ولا حول النظام المدرسي أو الصحة. فلطالما سمح لهم حسن العيش المشترك المعهود، حتى العام 1975، بأن يتخطوا التباينات المحورية المختلفة في هذه المجالات. كذلك، إن تعلقهم المشترك بالشعراء والأدباء والفنانين أنفسهم وبفن الطبخ ذاته، أي بمعنى آخر، تعلقهم بتراب أرضهم، كان أقوى مما ينظر اليه الأوروبيون على أنه مجتمعات مختلفة تمام الاختلاف. وحدها"القوات اللبنانية"نادت بنظام فيديرالي يهدف الى التوفيق بين ما رأته فجأة في فترة الحرب كمجتمعين مختلفين. طبعاً، يمكن أن نستمر في إعطاء لبنان نعوتاً معلبة مثل"فسيفساء"الاتنيات ومجتمع متعدد الثقافات، ولكن هذا استسلام للخمول الفكري. فمن الواضح ان منذ 13 قرناً، لم ينقسم اللبنانيون حول خصائص طرق عيشهم، هذه الخصائص المحصورة بمسائل الأحوال الشخصية لا سيما الزواج والإرث. إن انقسام اللبنانيين الأساسي منذ قرنين كان موضوعه تحالفات البلاد مع الخارج. وما زال هذا الانقسام اليوم يشكل نقطة التباين المحوري الأكثر تأثيراً التي تقسّم الحساسيات السياسية الى فريقين كبيرين متعارضين: فريق مؤيدي التحالف الوثيق مع الدول الكبرى الغربية، وفريق مؤيدي التحالف مع الدول الكبرى الاقليمية في الماضي كانت السلطنة العثمانية، ثم تبعتها مصر ومن بعدها المملكة العربية السعودية وصولاً أخيراً الى سورية. فالحساسية السياسية الأولى تستند الى الدور الرئيس الذي أدته الدول الكبرى الغربية في التقدم الثقافي والاقتصادي في لبنان، والى الحماية التي أمّنتها هذه الدول الكبرى للمسيحيين، ما سمح للبنان بأن يفلت من إمكان الاندماج في وحدة جغرافية عربية أوسع نطاقاً مثل سورية، وحدة ما كانت لتؤمّن له هذا المستوى من العيش والتطور. أما الحساسية الثانية، فترى بالعكس أن لبنان غالباً ما استُعمل أداة في يد الدول الكبرى الغربية بهدف سلخه عن محيطه العربي، وتحويله الى قاعدة لتأثير السياسة الغربية في المنطقة، هذه السياسة التي غالباً ما أظهرت العداء لمصالح البلدان العربية المجاورة. وبما ان الغرب يدعم المطامع الاسرائيلية في المنطقة، يزداد حذر هذه الحساسية الثانية منه، خصوصاً أنها لا تؤمن بإمكان العيش بسلام مع دولة اسرائيل التي كانت وما زالت تسعى الى زعزعة الاستقرار في لبنان. فبين العام 1968 تاريخ الاعتداء الاسرائيلي الكبير الأول على مطار بيروت والعام 2000 تاريخ الانسحاب من الجنوب بعد 22 عاماً من الاحتلال، أذاقت اسرائيل لبنان مرّ العيش فكان أو مارست حق الاقتصاص منه في شكل مبالغ فيه وفي غير محله. في المقابل، تعتبر الحساسية الأولى انه لا ينبغي لوم الغرب واسرائيل على كل مآسي لبنان، لأن السياسات المتناقضة غير المتناسقة التي مارستها البلدان العربية مسؤولة عن مآسي المنطقة، مثلها مثل السياسة الغربية، إن لم يكن أكثر. وفي الأحوال كافة، تعتبر هذه الحساسية أن لبنان قدّم ما يكفي من التضحيات في سبيل القضية الفلسطينية ومحاربة اسرائيل. كذلك، تعتبر هذه الفئة أن عدداً كبيراً من البلدان العربية يقيم علاقات مع اسرائيل، وبالتالي، فما من سبب وجيه للاستمرار في اخضاع لبنان لمتطلبات محاربة اسرائيل. بالنسبة الى هذه الحساسية، لربما يكمن الخطر المحدّق بلبنان في جيرانه العرب وفي إيران أكثر مما يكمن في اسرائيل. وعلى العكس، تستمر الحساسية الثانية في تركيزها على الخطر الاسرائيلي ولا تعتبر أن سورية أو مصر على أيام جمال عبدالناصر، تشكلان خطراً على استقلال لبنان. هل من الممكن ان تتصالح هاتان الحساسيتان المتناقضتان في السياق الحالي حتى نتمكن اخيراً من التخلص من هذا التباين المحوري القديم الذي حرم لبنان حتى الآن من هناء العيش باستقرار، ومن التمتع بسيادة كاملة تلغي كل لجوء الى الخارج؟ في رأينا، هذا هو التحدي الفعلي الذي يواجهه اليوم شباب لبنان الذي يترتب عليه بناء لبنان جديد. وهذا التحدي كبير، خصوصاً ان السياسة الأميركية في المنطقة منذ اجتياح العراق، تسبب تبايناً محورياً حاداً في الرأي العربي. فمن جهة، نجد من يقبلون بمنطق الهيمنة"الديموقراطية"الذي تعتمده واشنطن، ويتوقّعون الكثير من الحكومة الأميركية من اجل المساعدة في الإصلاح السياسي والاقتصادي في المنطقة. ومن جهة اخرى، نجد من يرفضونه رفضاً قاطعاً إن كان باسم القومية العربية او القومية الإسلامية او حتى معاداة الإمبريالية العلمانية التي تغذيها التقاليد الفكرية الغربية. اليوم وقد تخلّص لبنان من الهيمنة السورية، عاد ليكون منبراً يرجّع صدى هذا التباين المحوري الذي طبعه وسبب له الكثير من المآسي. وفي هذا الإطار، صار حزب الله تجسيداً للمقاومة الإقليمية ضد النظام الأميركي الإسرائيلي الذي يسعى جاهداً لإعادة قولبة هذه المنطقة. وفي المقابل الولاياتالمتحدة وأوروبا تريدان ان يبرهن"ربيع"بيروت وتطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1559، صواب سياستهما في المنطقة. فلنوضح فوراً هنا ان ما من حل سحري للمأزق الذي يأسرنا وللظروف الإقليمية المزعزعة التي عدنا نعيش فيها. ولكن، اذا لم ينجح الجيل الجديد في تخطي هذا المأزق، ستكون مهمته في بناء لبنان جديد افضل، مهمة في غاية الصعوبة. وفي المقابل، من اجل اطلاق عملية تخطي التباين المحوري، لا بد من اعتماد قواعد الحيطة والحذر من جهة، ومن جهة اخرى، لا بد من استعادة ميراث فكري عظيم اهملناه وحري بنا ان نستلهم منه لنخرج من المأزق الحالي. ما معنى الحيطة؟ الحيطة تعني اولاً ألا نكرر تجربة الحروب"من اجل الآخرين"، لا سيما الحرب الإعلامية المستعرة حول السياسة الأميركية في المنطقة. وليس من شأن وسائلنا الإعلامية المكتوبة والمقروءة والمسموعة، ولا من شأن مفكرينا، ان يتحولوا الى مروّجين للسياسة الأميركية. فالوطنية الوحيدة الذكية والمناسبة هي تلك التي تسعى الى حماية لبنان من رياح الزعزعة التي تعصف في المنطقة. وفي شكل خاص، يجدر بالسلطات الروحية المسيحية ان تحجم عن دخول الحلبة السياسية اليومية، فتخصص مقامها المعنوي لصون الحريات واستقلال لبنان بعيداً عن أي تدخّل، عربياً كان ام غربياً. ولكن، لم يشهد تاريخ الطائفة المارونية يوماً هذا التعاطي الكبير واليومي للكنيسة في الساحة السياسية المحلية، من دون ان تتوخى الحذر من المناورات الملتوية التي تُنفّذ على هذه الساحة، ولا من إمكان ان يحوّل الآخرون مقام البطريركية المارونية الى اداة يستعملونها. الحيطة تعني ايضاً ألا نوصم البعض اشراراً، ونعلن البعض الآخر قديسين. فالسذاجة والتهور والشغف الأعمى ما هي إلا مقومات الكارثة في السياسة، وقد ذقنا طعمها مراراً وتكراراً في تاريخنا الحديث. الحذر السياسي المدعوم بالشجاعة الفكرية، هذا ما علّمنا اياه ميراثنا الفكري والروحي المهمل اليوم. وإذا كان لبنان ينشد البقاء وتأمين استمرارية حرياته، يتعين عليه ان يتخطى نفسه في الذكاء، ان يكون رسالة عالمية الأهداف، رسالة عقلانية الطابع، في منطقة من العالم ترى نفسها، اكثر من أي وقت مضى، موضع المطامع والشهوات الجيوسياسية، والمادية، والدينية. وتجاهل هذه المعطيات في تاريخنا، كما فعل الكثير من رجال السياسة او المفكرين اللبنانيين منذ اربع سنوات، انما هو الطريق الحتمي الى الكارثة. فإذا تخلى لبنان عن دوره كمدافع عنيد عن قضايا العدالة والسلام والتقدم، فلن يسمع احد صوته بعد الآن، فيستحيل اداة في ايدي من هم اقوى وأغنى منه. على هذا الاساس، واجب لبنان الأول هو ألا ينسى انه مسيحي ومسلم على حد سواء وبالعمق نفسه. فهو متجذّر في اسس المسيحية في الشرق، اسس نسيها الغرب المسيحي منذ زمن بعيد. وبالتالي، يجب ان تكون القدس المسيحية والمسلمة تماماً كما روما، محط انظاره. فمصير المسيحية في الشرق رهن بوجود مسيحية حرة ومزدهرة في القدس، فيما ستنتج تهدئة الفورات الإسلامية هي ايضاً عن تحرير المسجد الأقصى، ثالث الأماكن المقدسة في الإسلام. وبعد ان استفاد لبنان من سرعة تطبيق القرار 1559 في شقه المتعلق بسورية، يجب ان يلح الآن على تطبيق قرارات الأممالمتحدة الأخرى ومبادئ القانون الدولي المتعلقة بالمنطقة بالسرعة نفسها، لا سيما تلك التي تخص فلسطين او احتلال اسرائيل لأراض سورية. وبعد، صحيح ان قانون الانتخابات مهم، ولكن بدل ان نناقشه ونتخاصم بشأنه اليوم في حين كان يجدر بنا التفكير فيه سابقاً، فلنركز اهتمامنا على العمل بشجاعة على الخطاب اللبناني الفلسفي والأخلاقي والسياسي. ولهذه الغاية، مهمتنا الأكثر إلحاحاً اليوم هي اعادة مكانة ميراثنا الفكري الذي حدد رسالتنا الطليعية في المشرق العربي وسمح لنا بأن نكون موجودين، مبدئياً على الأقل، ككيان سيد وحر. وحده الاعتماد الصارم لمبادئ العدالة والسلام والحوار في خدمة مثال اعلى يرفض كل اشكال الهيمنة الغربية، او الشرقية، او الصهيونية، كفيل بأن يجعلنا نتخطى التباين المحوري الحاد الذي يمزقنا منذ الاستقلال ويشل وجودنا. فإذا نجح شباب اليوم في تحقيق هذه الغاية، سيسهل كثيراً حل المشكلات المتعددة الأخرى من دون اللجوء الى الخارج. وبذلك، سيشق الشباب ايضاً طريقاً جديدة تخرج المنطقة عبرها من انحطاطها وعذابها. في حال لم ننجح في تخطي التباين المحوري، ستستمر التجاذبات المتناقضة التي تهز المنطقة في تمزيق لبنان. وكل بناء لما سيأتي، يفرض علينا ان نحدد المبادئ الفلسفية والأخلاقية التي ننوي بناء المستقبل عليها. فلا امكان لإطلاق أي ورشة بناء من دون اسس قوية ثابتة. ولا حلول بسيطة في هذا المجال إلا حل القبول بأن تكون القرارات المتعلقة بمصيرنا ومستقبلنا في يد آخرين يستعملون الطوائف والطائفية ادوات لبسط سيطرتهم. اما الحل الصعب فهو ان نسترجع مهمة لبنان الأولى، او"رسالته"على حد قول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. خيار الحل السهل يدعونا اذاً الى الاستمرار في الانسياق وراء الهيمنات الخارجية والمناورات الملتوية المنحرفة التي يقوم بها ممتهنو سياسة التسييس والطائفية. وعلى من يقع هذا الخيار الجوهري؟ على الجيل الجديد طبعاً، بما ان الجيل القديم رهينة عجزه وأسير ماضيه. * مفكر لبناني. وزير سابق.