عند مدخل السوق الغربي في القطيف، تلمحها عن بعد تفترش الأرض, تلفحها حرارة الشمس التي تقارب الأربعين درجة. تبسط أسماكها"المنهكة"مثلها بعد طول انتظار من يشتريها، رائحة السمك تملأ المكان. تُرى ما الذي يجعل سيدة في الخمسين من عمرها تفتتح النهار مع أول خيوط الشمس في الخامسة صباحاً، لتبقى حتى الواحدة والنصف ظهراً، وهي تبيع السمك يومياً منذ ما يقارب خمسة وثلاثين عاماً؟ خمسة وثلاثون عاماً تقيم تحت الشمس وحيدة في السوق، بعدما تقاعدت زميلاتها من المهنة قبل ثلاث سنوات، ولا تزال بائعة الأسماك الوحيدة التي تصدق عليها جارها بفيء يظللها من مظلته"سآخذ منها أجرتي ولن أدعها"، هكذا قال مازحاً. فجارها الذي رافق مسيرتها منذ 25 عاماً، يشاركها في الاحتجاج:"الأعوام مرت كما هي، لم تتغير الحال ولا الأوضاع، سوى أن الأطفال شبوا وباتوا يحتاجون الى ما لا يخطر على بالها، بعد مرض والدهم البحار السابق المقعد حالياً". أصغر أبنائها ذو الثلاثة عشر ربيعاً، يجلس قبالة أمه يسقي الإسفنج بماء بارد ويرشح السمك كل بضع دقائق، من دون كلل. يلتفت الى البعيد سارحاً من دون أن تخفي عيناه قلقاً بريئاً، مفكراً في ما تقوله أمه عن معاناتها من أجل تربيتهم والكفاح من أجلهم. بدا مفتعلاً اللامبالاة بما يدور من حديث، لكنه كان منصتاً ومهتماً بأسماك أمه. تسكت أم فاضل لوهلة، تتذكر السنوات المنصرمة التي أمضتها في السوق ثم تقول:"جئت الى السوق منذ كنت فتاة صغيرة لم أتعد الثالثة عشرة من العمر، لمساعدة أهلي، ثم تحولت الى مساعدة زوجي، وهكذا مرت السنوات". ولا تنسى أم فاضل الزيارة المفاجئة للبلدية. يومها لم تكن لديها رخصة لبيع السمك:"فاجأتنا البلدية منذ مدة وليست لدينا تراخيص للبيع، ثم ذهبنا لاستخراج رخصة وقمنا بالتحاليل اللازمة، وقد رفقوا بنا نظراً الى أوضاعنا". وتتنهد لتوقّف البيع وقلة المشترين:"ابتعت سمكاً من أحدهم بقيمة ثمانين ريالاً بعدما رق لحالي، بعت منه بأربعين ريالاً فقط، وأنا قلقة كيف سأبيع ما تبقى من السمك. لن أفكر في الربح، فقد تعودت على تجربة كهذه". وعن جاراتها البائعات اللواتي استقرت أحوالهن وتركنها وحيدة، تتذكر بحنين أيامهن التي انقضت، وتقول:"أصبح لهن أبناء تسلموا دفة الحياة بعدهن، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي استقر فيه، فقد مضى من العمر أكثره وسئمت الشمس هنا، فمتى نستريح؟". وعن الأولاد أجابت أم فاضل:"لي من الأبناء أربعة ذكور أكبرهم في الخامسة والعشرين وهو وحده الذي يعمل حارساً براتب بسيط يبلغ ألفي ريال، لا يكاد يكفي مصاريف منزلنا والمنزل الذي سيفتحه قريباً بعد زواجه، وأنا الوحيدة التي تساعده في مصاريفه أيضاً على رغم أن لي اخوة، لكن الجميع مشغول بنفسه وأهله ولا من يلتفت الى وضعي، حتى جمعيات المساعدة لم تنظر إليّ".