Marie-Dominique & Charlier Dagras. La Laicite Francaise a' L'Epreuve de L'Integration Europeenne. العلمانية الفرنسية على محك الاندماج الأوروبي. L'Harmattan, Paris. 2002. 448 pages. لقد شاءت ظروف فكرية وتاريخية محددة، تتمثل بعصر التنوير وبثورة 1789، أن تكون فرنسا هي السباقة إلى اختراع العلمانية وإلى تطبيق شكل صارم من فصل الدولة عن الدين. وهذا ما تم من خلال القانون الشهير الذي أصدرته الجمهورية الثالثة عام 1905، عقب قطع العلاقات الديبلوماسية بين فرنسا والفاتيكان، والذي نص في مادته الأولى على ضمان حرية الضمير والاعتقاد، وفي مادته الثانية على عدم اعتراف الجمهورية وعدم تمويلها لأي عبادة دينية. وهذا القانون، الذي اشتهر باسم "قانون فصل الكنائس والدولة"، وجد تتويجه في دستور 1946 الذي نص، للمرة الأولى في تاريخ فرنسا، على أنها "جمهورية علمانية"، ثم في دستور 1958 - المعمول به إلى اليوم - الذي أعاد، في مادته الأولى، توكيد علمانية الجمهورية الفرنسية، وإن يكن في مادته الثانية قد قدم بعض الترضية للمواطنين الكاثوليكيين بتوكيده أن الجمهورية العلمانية "تضمن المساواة أمام القانون لجميع المواطنين من دون تمييز باعتبار الأصل أو العرق أو الدين، وتحترم المعتقدات كافة". لكن طبيعة المشكلات الاجتماعية والايديولوجية التي واجهتها فرنسا في ظل الجمهورية الخامسة ابتداء من 1958 إلى اليوم أحدثت تغييراً جوهرياً في المنظور الذي تطرح فيه المسألة العلمانية. فالمذهب العلماني الصارم قد رأى النور وتبلور في غمار الصراع بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية على السلطة الساسية. ولم يكن من سبيل آخر لحسم هذا الصراع سوى التكريس التام والجذري لمبدأ الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية. فتحييد الكنيسة سياسياً كان لا بد أن يقابله تحييد الدولة دينياً. وهذا التحييد المتبادل أعطى نوعاً من مضمون سالب للعلمانية التي ما عادت تعني سوى منع التمييز الطائفي بين المواطنين ومنع التعليم الديني في المدارس العامة ومنع كل أشكال التعبير عن الانتماء الديني لا في الوظيفة العامة فحسب، بل حتى في قانون الأحوال الشخصية، وفي مجال الاجراءات القانونية المتعلقة بالزواج والطلاق والولادة والوفاة. لكن مبدأ العلمانية الصارم والسالب هذا طفق يخسر بعض مواقعه من خلال تطور ثقافة حقوق الإنسان التي أحدثت انقلاباً في الأولويات بإعطائها الأولوية للحق في الحرية الدينية، بالمعنى الايجابي للكلمة، على مبدأ العلمانية بمعناه السالب. وقد ارتبطت ثقافة حقوق الإنسان هذه وتوكيدها الايجابي لمبدأ الحرية الدينية بتطور حركة الهجرة إلى فرنسا في ظل الجمهورية الخامسة، مع صيرورة الإسلام ثاني أديان فرنسا بعد الكاثوليكية، ومع صيرورة المسلمين، من متجنسين ومقيمين، أول وأكبر أقلية في المجتمع الفرنسي. فبحكم نصاب الأقلية هذا بات المطلوب، جمهورياً، لا رفع يد الكنيسة عن الدولة، بل تأمين حق الشطر الأقلوي من المجتمع المدني الفرنسي في ممارسة شعائره الدينية. ومن هنا الانقسام العميق - والصاخب أحياناً - الذي حدث في الرأي العام الفرنسي، وفي صفوف المثقفين في المقام الأول، حول مسألة "الحجاب الإسلامي" التي تتالت فصولاً على امتداد التسعينات من القرن العشرين. فأنصار العلمانية الخالصة انتصروا لفكرة منع المحجبات من الدخول إلى حرم الجامعات والمدارس العامة تمسكاً منهم بمبدأ عدم جواز الاشهار عن الهوية الدينية في المجال العام. وأنصار حقوق الإنسان مالوا إلى نوع أكثر ليبرالية من العلمانية وقالوا بوجوب السماح وغض النظر عند الضرورة احتراماً لمبدأ التعددية واحترام حرية الغير، وفي المقدمة الحرية الدينية. لكن هذا التحول نحو علمانية أقل تجريداً من الناحية القانونية وأكثر انفتاحاً على الواقع الاجتماعي التعددي لفرنسا لم يأتِ استجابة لمطلب داخلي فحسب، بل لمطلب خارجي كذلك. فالنموذج العلماني الفرنسي هو إلى حد كبير نموذج استثنائي ويكاد يكون منقطع النظير حتى في دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة. والحال أن سيرورة البناء الأوروبي، التي بدأت اقتصادية خالصة، كان لا بد أن تمتد أيضاً إلى الناحية التشريعية والقانونية. والحال أيضاً أن معظم البلدان الأوروبية تقدم في تشريعاتها المعمول بها مبدأ الحرية الدينية على مبدأ الفصل الجذري بين الدولة والكنائس. بل ان دولاً بعينها تقوم وضعيتها القانونية على مبدأ الدمج، لا الفصل، بين السلطتين. وفي مقدم هذه الدول الدانمارك وفنلندا اللتان يعطي دستورهما للكنيسة صفة "الكنيسة القومية"، وان كان الدستور الدانماركي يحصر هذه الصفة بالكنيسة الانجيلية اللوثرية، بينما يشمل الدستور الفنلندي بها الكنيسة الأرثوذكسية أيضاً. وفي المملكة المتحدة تعتبر الكنيسة من الناحية القانونية "كنيسة دولة" وتسمى "كنيسة انكلترا"، ترأسها الملكة، ويعتبر قانونها الاكليركي جزءاً لا يتجزأ من القانون الانكليزي. بل ان مجلس اللوردات يضم لزوماً عشرين اسقفاً يمثلون الكنيسة الانغليكانية تسميهم الملكة بنفسها بوصفها "حامية الايمان". لكن أكثر الدول الأوروبية تطرفاً في مجال الدمج الدستوري بين السلطتين هي جمهورية اليونان التي يكاد تشريعها في هذا المجال يقدم نموذجاً مكتملاً ل"قيصرية بابوية". فالدستور الجمهوري لليونان لعام 1986، والموروث عن الدستور الملكي لعام 1922، يعطي ديانة الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية صفة "ديانة الغالبية"، وينص في المادة الثالثة والثلاثين منه على أن رئيس الجمهورية ينتمي لزوماً إلى الديانة التي تنتمي إلى "عقيدة الثالوث المقدس المشارك في الجوهر والواحد اللامنقسم"، كما ينص في المادة السادسة عشرة منه على أن "من أهداف التعليم تنمية الوعي القومي والديني". ولهذا، وحتى عام 1988 على الأقل، كان المعلمون المنتمون إلى الديانة الأرثوذكسية هم وحدهم الذين يحق لهم التعليم في المدارس العامة. وبالإضافة إلى هذا كله، فإن الدولة هي التي تتولى، بالكامل تقريباً، سد الحاجات المالية لكنيسة الغالبية الأرثوذكسية، كما أنها هي التي تنفق على المدارس الدينية، في الوقت نفسه الذي تحجب مثل هذه المساعدة المالية عن أي ديانة مسيحية أو غير مسيحية أخرى. وهي تتطرف في هذا المجال إلى حد اعتبار جبل آتوس، الذي يضمّ مجموعة من الأديرة الأرثوذكسية التاريخية ويسكنه اليوم ألف وخمسمئة راهب، "جمهورية كونفيدرالية مستقلة بذاتها" لها تشريعها الدستوري الخاص الذي ينص، في ما ينص، على أن "الإقامة في جبل آتوس محرمة على الهراطقة والمنشقين عن العقيدة". وإذا كان النموذج العلماني الفرنسي الجذري سينوء لا محالة تحت وطأة هذه "اللاعلمانية" الأوروبية طرداً مع تعاظم الميل إلى توحيد التشريع، بعد الاقتصاد، على الصعيد الأوروبي، فمن المؤكد أيضاً أنه سيضغط بدوره باتجاه تجذير العلمنة الأوروبية. وبالفعل، وتحت التأثير غير المباشر على الأقل للنموذج العلماني الفرنسي، اضطرت دولة مثل ايطاليا، كانت درجت حتى عهد قريب على اعتبار الكاثوليكية دين الدولة، إلى تعديل دستورها، وإلى إعلان استقلالية كل من الدولة والكنيسة واحدتهما عن الأخرى، وإلى وقف كل مساعدة من الدولة للكنيسة الكاثوليكية، وإلى الاعتراف بالشخصية القانونية لسائر الديانات الموجودة في ايطاليا، بما فيها البوذية والإسلام وشهود يهوه، وإلى إلغاء الزامية التعليم الديني الكاثوليكي في المدارس العامة مع الابقاء على هذه المادة اختيارية. وبكلمة واحدة، تحوّلت ايطاليا ابتداء عن 1984، وبصورة تدريجية، من دولة "طائفية" إلى دولة محايدة دينياً وشبه علمانية. ويلحظ مثل هذا التطور في اسبانيا، إذ نص دستورها الجديد الصادر عام 1978، والمعدل عام 1980 بقانون خاص عن الحرية الدينية، على إلغاء مبدأ دين الدولة واستبداله بمبدأ حياديتها وتعاملها التعاقدي مع سائر الأديان "المستقرة" في اسبانيا، وفي مقدمها البروتستانتية واليهودية والإسلام، وإن ظلت الديانة الكاثوليكية، باعتبارها ديانة الغالبية الكبرى من الاسبانيين، تتمتع بمزايا ضريبية تتمثل في اقتطاع 52.0 من ضريبة الدخل لمصلحتها في حال ابداء المكلف عن رغبة شخصية في مثل هذا الاقتطاع. مجمل القول إن العلمانية المطبقة في دول الاتحاد الأوروبي لا تزال جزئية ومتكيّفة مع التقاليد الثقافية الخاصة بكل بلد على حدة. وليس من المتوقع خلال المستقبل المنظور توحيد التشريع الأوروبي بصدد العلاقات بين الدولة والكنائس. لكن المبدأ الوحيد المجمع عليه والمنصوص عليه في الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان هو مبدأ الحرية الدينية. والسؤال الذي لم يحسمه المشرع الأوروبي بعد: إذا لم تكن الدولة محايدة دينياً، فكيف تستطيع أن تضمن هذه الحرية الدينية؟