لم تكن كريستيان وايمان رئيساً لتحرير مجلة"شعر"عام 1964، حين نشرت تلك المجلة الأميركية العريقة قصيدة"النوم خارج البيت"لشاعر في الثامنة والعشرين من عمره، لم يكن قد نشر حرفاً حتى ذلك الحين، واسمه س.ك.وليمز. ليبدأ ذلك الشاب بداية عزرا باوند، وإليوت، والعبقري وليم كارلوس وليمز، الذين ظهرت أولى قصائدهم المهمة على صفحات هذه المجلة. بل ولتكون له بداية والاس ستيفنس الذي أرسل الى هارييت مونرو ? رئيس تحرير المجلة ? عام 1914 يقول:"ان سيرتي الذاتية قصيرة جداً بالضرورة، لأنني لم أنشر شيئاً فتنشر له"شعر"أولى قصائده، ليبدأ منذ تلك اللحظة ما لا يمكن تخيل الشعر الأميركي من دونه. حدث لوليمز ما حدث لستيفنس، وظهرت قصيدته الأولى في المجلة التي استوعبت... منذ تأسيسها في شيكاغو على يد هارييت مونرو عام 1912، كل الاتجاهات الشعرية إعمالاً للسياسة المنفتحة التي أعلنتها في العدد الأول والتي تقضي بنشر أفضل ما يصل اليها من الشعر مهما تكن طروحاته الجمالية، ومهما يكن كاتبه، وهو الأمر الذي جعل 30 في المئة ممن نشروا فيها خلال العقد المنصرم هم شعراء ينشرون للمرة الأولى. مر اذاً نحو ثلاثين عاماً، نشر خلالها وليمز تسعة دواوين، وأصبحت وايمان خلالها رئيس تحرير مجلة"شعر"، ورئيس لجنة الترشيح لجائزة"ليلي روث". وفي العشرين من شهر نيسان ابريل 2005 وقفت كريستيان وايمان أمام حشد من الصحافيين لتعلن منح الجائزة هذا العام للشاعر وليمز: "فهو بلا جدال خير من يغوص في الذات البشرية، من دون أن يغفل ولو طرفة عين عن اظهار ما هنالك من وشائج بينها وبين العالم الأوسع، فأحدث شكلاً شعرياً خاصاً نراه يوماً بعد يوم يزداد تحققاً في المشهد الأدبي الأميركي". بهذه الجائزة يكون وليمز قد حصل تقريباً على كل ما تستطيع أن تكرم به أميركا أحد شعرائها. فقد سبق للرجل أن حصل على الجائزة الوطنية للكتاب عام 2003 عن ديوانه"الغناء"، وعلى بوليتزر في الشعر عام 2000 عن ديوانه"اصلاح"، كما حصل ثلاث مرات على جائزة الشعر من الحلقة الوطنية لنقاد الكتاب في أعوام 1996 و1992 و1987 عن دواوين:"سهر"، و"حلم الذهن"، و"لحم ودم"على التوالي. كما حصل على جائزة المعهد الأميركي للفنون والآداب عام 1989، وفي العام نفسه حصل على جائزة برلين من الأكاديمية الأميركية في برلين، وجائزة هارييت مونرو من جامعة شيكاغو عام 1993، وجائزة الأدب من الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب عام 1999. ربما لا تكون ل"ليلي روث"عراقة بعض هذه الجوائز، أو شهرة البعض الآخر، فقد تم منحها للمرة الأولى عام 1986، أي منذ نحو عقدين. لكنها تكتسب أهمية كبرى لأكثر من اعتبار: لعل أولها هو الجهة المانحة، وهي مؤسسة الشعر المستقلة، التي من بين أهم انشطتها اصدار مجلة"شعر"نفسها يقال انها أقدم المجلات الشعرية في العالم الناطق بالانكليزية، وتكتسب - ثانياً - قدراً كبيراً من أهميتها من الأسماء التي حصلت عليها من قبل: آدريان ريتش، فيليب ليفين، آنتوني هكت، مونا فان ديون، هايدن كاروث، ديفيد واغنر، جون آشبري، تشارلز رايت، دونالد هول، ر. آمونز، جيرالد ستيرن، وليم ماثيوز، و. س. مروين، ماكسين كومين، كارل دينيس، يوسف كوميونكا، ليزل ميولر، ليندا باستلد، كي رايان، وهذه الأسماء تؤكد حيدة الجائزة تماماً، اذ تضم السحاقية، والأسود، والمجرب، والتقليدي، والغزير والمقل، وكأن المعيار الوحيد في الاختيار هو أهمية المنجز الشعري في اجماله، فالجائزة تكرم شاعراً ذا انجاز، وليس ديواناً شأن غالبية الجوائز الأميركية. كما تكتسب الجائزة - أخيراً - قدراً غير قليل من الأهمية بكونها أكبر الجوائز الشعرية المخصصة للشعر في العالم الناطق بالانكليزية من حيث قيمتها المادية التي تبلغ مئة ألف دولار. ولد وليمز عام 1936 في ولاية نيو جيرسي، وتلقى تعليمه الجامعي في جامعة بنسلفانيا ويقوم الآن بتدريس الكتابة الابداعية في جامعة برينستن. ويعيش بين برينستن وباريس. اللافت في كثير - بل في كل ما توافر لي - من الكتابات النقدية حول شعر وليمز هو وقوفها جميعاً أمام طول البيت الشعري عنده. يقول الأميركي ريتشارد هوارد ان شكل القول تحدد عند وليمز منذ أول دواوينه، إذ يطول البيت الشعري لديه حتى لا تستوعبه الصفحة مهما كان عرضها، ويبدو للعين كما لو أن ثمة بيتاً قصيراً بين كل بيتين طويلين، الى ان يتكشف للقارئ عبر فعل القراءة ان البيت القصير ليس ألا فيضاً من البيت السابق ضاق عنه المجال. وكأن كل بيت وأي بيت لدى وليمز - مهما يكن ما تقوله كلماته - يقول انه ممتلئ بما يفوق الحيز. يرى هوارد تماثلاً بين هذا المنحى لدى وليمز واتجاهاً ظهر في الفن التشكيلي في ما يعرف ب"لوحات المجال اللوني"وفي الأعمال الأولى للتشكيليين كليفورد ستيل وبارنيه نومان، حيث تكون اللوحة من الشساعة والضخامة بحيث يتعذر على العين الالمام بها واستقبالها كوحدة متكاملة. فكأن مثل هذه اللوحات - والقصائد في حال وليمز - تدعو المتلقي الى الدخول اليها لا الى تلقيها. أذكر - لو لم تخني الذاكرة - أن المصور السينمائي المصري"سعيد شيمي"حاضرني مرة عن نوع تجريبي من السينما ينحو هذا المنحى، حيث جدران السينما جميعاً شاشات تعرض مجالاً بصرياً شاسعاً. على أي حال، ينبغي القول ان طول البيت الشعري عند وليمز - كما في قصيدة "الغناء" - ليس مجرد خلية بصرية، فلن يخطئ القارئ الغزارة التي لا يرغب الشاعر في السيطرة عليها، كما لن يخفى عن القارئ ذلك القدر الكبير من الفوضى، فما أقل علامات الترقيم، وبالتالي ما أقل الجمل، وبالتالي ما أصعبه من اختبار على القارئ، ان يجد نفسه مع قصيدة وليمز كما لو كان أمام خامة، عليه أن يحدد ما الذي يمكن أن تكونه وما الذي يمكن أن يوجده فيها، عليه أن يحدد متى تنتهي جملة، ويكتمل معنى، عليه أن يخوض تجربة قراءة الشعر في حال حقيقية من التوتر، مودعاً الى الأبد صورة أولئك الذين يصطحبون الدواوين للاستمتاع بها على ضفاف الأنهار. مع صعوبة قراءة وليمز النسبية طبعاً لا أظن القارئ يجده غامضاً، هو فقط بعيد قليلاً عن الوضوح الذي لا يحرص عليه - في ظني - الا مدعو النبوة وأصحاب الرسالات ومن شاكلهم. قصائده صافية على رغم كل شيء. لا يشعر القارئ انها تحيل الى خارجها، لا الى عالم ضيق بحجم جسد الشاعر، ولا الى كتاب معين في مكتبته. وهنا قصيدتان للشعر حرصت أن تتباينا،"الغناء"قصيدة الغزارة والطول والفوضى الجميلة، و"أرنبة"قصيدة الكثافة والدقة والصفاء والمخاتلة. مصر - أحمد شافعي شاعر وكاتب