من قرأ سعدي يوسف في أوج عطائه الشعري لا يمكنه أن يتجاهله في خريف شعره، مهما بلغ به نزقه أو مزاجه الصعب. شاعر في الثمانين، لا يكتمل نهاره إن لم يكتب قصيدة، ولو مرغماً في أحيان، أما ليله فهو نواسيّ وخيّامي ولكن مشوباً بحزن عراقي وحنين وشجو وصبابة... في الثمانين، لكنه يصر على تجاهل وطأة الزمن وإن نال من عزمه وشكيمته. ولعله على قناعة أنّ الشاعر فيه قادر على مواجهة هذا الخريف ما دام قادراً على الكتابة واحتساء «الراح» على ما تقول العرب، وإطلاق التهم جزافاً و «النهفات» و «المزحات» الثقيلة التي سرعان ما ينقضها ناسياً أو متناسياً إياها. بات الشعر عادة من عادات سعدي يوسف اليومية. لا بدّ من قصيدة كل يوم، ولو من دون شغف، أو رغماً عن لحظة الإلهام التي أمست تخونه. لا يهمّ ما يكتب، المهم أن يكتب، ولا بأس إن افتقرت القصيدة إلى القوة والعصب والجذوة والطرافة... والآن، بعدما حل الكومبيوتر محل القلم والأوراق، وقضى البريد الإلكتروني على ساعي البريد، أضحت «معاقرة» الشعر ضرباً من ضروب السحر. يكتب الشاعر قصيدته، سواء في لندن أو طنجة وسواهما، وسرعان ما يطلقها مطبقاً بها الآفاق، فيتلقاها الأصدقاء والخصوم، والصحف والمواقع الإلكترونية. كان الكومبيوتر هو ما ينقص سعدي يوسف في عزلته. هذه الآلة الجهنمية جعلت من التداني بديلاً من التنائي، وعبرها أضحى العالم البعيد قريباً، على مرمى شاشة فضية لامعة. لكنّ أكثر ما يحزنني أن أقرأ قصائد سعدي المرسلة إلكترونياً منشورة في أسفل الصفحات الأدبية وفي هوامش ضيقة لا تليق بشاعر في حجمه. لم يعد لقصيدته فعلها ولا أثرها، وبات الكثيرون يقرأونها من غير مبالاة واهتمام. بلغ سعدي يوسف الثمانين، العمر كله. أما ديوانه الجديد «طيران الحدأة» الذي صدر حديثاً عن دار التكوين (دمشق)، فلا تمكن معرفة مرتبته العددية. لعله هو نفسه لا يعلم ما عدد الدواوين التي أصدرها حتى الآن. دواوين مبعثرة بين مدينة وأخرى، بين بيروتودمشق وعمان ومدن مغاربية. وأذكر أنني في السبعينات ابتعت «الأعمال الشعرية» التي أصدرها سعدي عن دار الفارابي اللبنانية. ولا أدري كم بلغ عدد طبعات «الأعمال الشعرية» هذه التي يستحيل أن تحمل صفة الكاملة. أما الديوان الجديد، فيحمل خير نبأ عن آخر أحوال سعدي الشعرية والشخصية، وإن كان لا يختلف كثيراً عن دواوينه المتوالية والمتتالية منذ خمسة عشر عاماً. اللافت في هذا الديوان أن عنوانه «طيران الحدأة» ليس مستلاًّ من إحدى القصائد التي يتضمنها، كما درجت عادة العنونة. والحدأة طائر من الجوارح، يسمى شعبياً «الحداية» و «الشوحة». لماذ اختارالشاعر هذا العنوان؟ هل تخيل نفسه يحلق في سماء العراق مثل حدأة؟ هذا العراق الذي يجاهر بحنينه إليه هاجياً لندن، التي أمسى مقامه فيها «كمقام المسيح بين اليهود»، كما يقول في إحدى قصائده. ويسائل نفسه هو «حفيد كندة وامرئ القيس» ماذا يفعل «في أرض لقيصر» حيث «الليل أعمى والهاتف الأسود ملقى». ويعلن سعدي شوقه إلى البيت الأول بعد سنين قضاها في البحث عن بيت، كما يعبّر، هارباً من بيت لندن الذي يصفه ب «القبر». وتبلغ حماسته في إحدى القصائد حتى ليؤكد أنّ «العراق آت» لا محالة، «العراق الجميل»، ولكن بعد «رحيل الأميركي والخادم الفارسي» كما يقول. لكنه يستفيق في قصيدة أخرى من حنينه ليؤكد أن العراق لن يعود إلا «بعد قرن»، قائلاً بلهجة ساخرة: «سوف يأتي لنا مقتدى الصدر بالأغنيات/ ويأتي الصبي المعمم عمار بالراقصات/ ويأتي لنا المالكيّ بألوية من طويرج.../ سوف يأتي لنا البارزاني والطالباني بالشقشقات...». يكتب سعدي يوسف ليكتب، يكتب لنفسه أولاً وأخيراً، القارئ لا يعنيه في مثل هذه القصائد، ولا يعنيه الفن الشعري ولا الصنعة التي طالما عرف بها. حتى لعبة التفاعيل التي يجيدها أيَّما إجادة، لم تعد تشفع لقصيدته، التي باتت مكشوفة وعارية وهزيلة في أحيان كثيرة. يكتب ليشعر أنه ما زال حياً، يتنفس ويشرب ويمشي. يكتب ليتذكر ماضيه والعراق، لينسى أنه يقطن بيتاً هو «اللابيت»... يكتب سعدي يوسف مدركاً أن الشعر لن يعصاه أو يخونه، أن الشعر يظل صديقه الوحيد حتى وإن خانه هو، خيانة غير صغيرة. سعدي يوسف في الثمانين. لا يصدق شاعر مثله أنه بلغ هذا العمر. قبل أيام أعلن الكاتب الألماني غونتر غراس توقفه عن كتابة الروايات بعدما اجتاز الرابعة والثمانين، وقبله أعلنت الكاتبة الكندية أليس مونرو الفائزة بجائزة نوبل التوقف عن الكتابة على عتبة الثمانين، وقبلها أعلن الروائي الأميركي فيليب روث التوقف أيضاً عن الكتابة. كم يصيب المبدعون عندما يدركون متى يجب التوقف عن الكتابة. سعدي يوسف لن يتوقف عن الكتابة مهما انحدر به شعره إلى دركات الهاوية. هل يتوقف شاعر عن التنفس؟