هناك الكثير من الشعر المطبوع، الذي نقرأه، من غير المهم بأي لغة. من يقدر على تخيل عدد القصائد التي كُتبت في التاريخ البشري. نعم هناك الكثير من الشعر الذي نعرفه. الشعر الحقيقي والجميل وذو المغزى العميق، والذي يأتينا على مدى قرون طويلة، منذ أن عرف الإنسان النطق، أو منذ أن عرف الإنسان الغناء على اقل تقدير. ولكن، على رغم ذلك، أعتقد أن الدراما الحقيقية، لا نجدها في الشعر المكتوب، إنما في مجموع الشعر غير المطبوع. هل يمكننا تخيل ذلك؟ كم هو عدد الذين يعتقدون أنفسهم شعراء، ولا يجدون الاعتراف عند الآخرين؟ كم هو عدد الذين يكتبون شعراً، ولا تجد قصائدهم طريقها الى النشر، إذ عليهم أن يتحملوا عناء تلك الجملة التي تخبرهم بأسف "قصائدكم غير صالحة للنشر؟". وكم هو عدد أولئك الشعراء من الذكور الذين تردّ قصائدهم "حبيباتهم"، وعليهم حينها النوم وحيدين مع ما كانوا يعتقدون أنه سيضعضع قلوب العذارى، وحيث لن ينفعهم حينها التهديد بالانتحار، أو تلطيخ جدران المدينة بكلماتهم "الشعرية" التي ستبوح باسم الحبيبة المطلوبة؟ كم هو عدد الشعراء والشاعرات الذين يبتزون محرري الصفحات الثقافية، مهددين أيضاً بالانتحار، لكي يفرضوا نشر قصائدهم؟ كم هو عدد أولئك الذين يصرخون في الحانات بأبيات شعرية من الصعب فكّ أحجيتها، يصهلون عالياً مشمرين بأذرعهم لكي يسمعهم حتى ولو حفنة صغيرة من الجمهور؟ "الشعراء يتبعهم الغاوون"، وهذا يعني، أن فيهم مسّاً من الجنون، أو انهم الشعراء - من غير المهم ما يلاقونه من عذاب ومعاناة - من يعتقدون أنهم وحدهم يملكون الصولجان في أيديهم، لأنهم يفترضون أن عندهم من العبقرية ما يجعلهم يبتكرون أساليب خاصة بهم، يفرضون من طريقها أنفسهم على الآخرين. وليس المقصود هنا، تلك الطرق التقليدية أحياناً لبعض الشعراء والشاعرات من محيطنا "العربي" عندما يستأجرون بعض الكتبة "المغتربين" لترجمة أعمالهم وبلغات مختلفة، لنشرها لاحقاً في دور نشر صغيرة توزع كتبها في دائرة محدودة، في دائرة الأصدقاء فقط، إنما المقصود تلك الطريقة "الجنتلمانية" التي أبدعتها سيدة أميركية: السيدة ليلي روث. وهاكم القصة. السيدة ليلي روث من ولاية أنديانا الأميركية هي كاتبة شعر "مزمنة" بوجد، تفوق كل شعراء الأمة العربية بوجدهم وبإصرارهم مجتمعين، إذ نجحت أخيراً في أن تكون شاعرة وتفرض نفسها على قائمة الفائزين المجهولين. منذ أكثر من أربعين عاماً تقرض السيدة روث الشعر، وقد واظبت على إرسال شعرها إلى المجلة الشعرية الأميركية الذائعة الصيت Poetry، على رغم أن ناشر المجلة "جوزيف باريسي"، كان يرجع كل ما بعثته بلا استثناء، ويكتب عليه ملاحظته المعروفة "غير صالح النشر". وإذا أراد أن يكون كريماً معها فإنه ربما يضيف بعض الملاحظات الصغيرة عند الهوامش تعبيراً عن العرفان، واحتراماً للإصرار غير المبرر للمرأة "الشاعرة". لكن ما لم يعرفه السيد جوزيف باريسي، هو أن السيدة ليلي روث بصفتها وارثة لأكبر شركة لصناعة الأدوية في أميركا "ألي ليلي"، كان في استطاعتها دائماً الحصول على قرصي "بروساك" و"زيبريكس"، القرصان يستخدمان ضد الشيزوفرينيا، من الإنتاج السري، وهما كافيان ليمنحا مناعة قوية ضد الكآبة. هذا يعني أنها لن تستسلم بسرعة. السيدة روث ظلت صامتة طوال هذه السنوات، لم تطبع أي ديوان، ولم تنشر في مجلة أخرى، ناهيك عن تأسيس مجلة أخرى كان في إمكانها أن تفعل ذلك. ولكن قبل فترة قصيرة فقط، تمكنت السيدة روث أخيراً من الانتقام من المجلة بطريقة فذة. المرأة التي تبلغ اليوم 87 عاماً من عمرها، والتي كما يبدو لم تكن تهتم برفض المجلة لقصائدها، وأنها كانت تقابل هذا الرفض باللامبالاة، حولت للمجلة التي نشرت أشعار تي سي إليوت، إزرا باوند، ويليام كارلوس ويليام، وليس أشعار روث ليلي، جزءاً ليس صغيراً من ثروتها. لا أحد يعرف بالضبط مقدار المبلغ الذي أوصت به للمجلة، لكن الجميع يتفق أنه في كل الأحوال أكثر من 100 مليون دولار. هل يُعقل ذلك؟ هذا ما سأل عنه جوزيف باريسي أيضاً، الذي ما زال رئيساً للتحرير، عندما كان عليه دراسة وتوقيع جبل الأوراق التي بعثها له المصرف. المجلة الصغيرة، التي يعمل فيها أربعة أشخاص فقط، وتدفع دولارين عن كل سطر، تحولت بين ليلة وضحاها فجأة إلى إحدى أغنى المجلات في العالم. قد يسأل المرء عن الشروط التي وضعتها السيدة العجوز؟ إنها، لمفاجأة الجميع لم تضع أي شرط. حتى ولو نشر سطر واحد لها. "نأمل بأن تكسب جزاءها في السماء". علق باريسي بجفاف. "من يدعم الشعر، لا يحصل على أي جزاء في الأرض. انهم شعراء لا غير!". بهذه الطريقة حصلت السيدة روث ليلي أخيراً على الاعتراف بشعريتها. ربما على الشاعرات أو الشعراء الذين في غناها الاقتفاء بأثرها. انها مجرد نصيحة "شعرية"!