أكمل مع الأندلس شعراً لا سياسة. وكنت توكأت كثيراً على هذا الشعر بعد غزو العراق، غير أنني أصبحت أسأل هل نواجه جميعاً مصير الأندلس؟ وهل يقوم بين شعرائنا المحدثين من يبكينا شعراً قبل السقوط الأخير؟ المعتمد بن عبّاد كان بطل حرب وحب، وشاعراً من مستوى الشعراء الكبار الذين مدحوه في أيام مجده. هو هزم الملك ألفونس في الزلاقة، وقيل ان ثلاث أفراس عُقرت تحته في المعركة. ثم استنجد بالمرابطين في مراكش، وحذره رجاله خوفاً من طمعهم في ملكه، فقال قولته المشهورة «رعي الجمال خير من رعي الخنازير». وأنجده يوسف بن تاشفين، وعاد الى المغرب، إلا أنه لم ينسَ رغد العيش في اسبانيا، فعاد اليها بعد سنتين وانتهى المعتمد بن عبّاد في الأسر. المقري في «نفح الطيب» يورد صورة مؤلمة لوضع الشاعر الأمير والشعراء الذين عاشوا على بابه ويقول إن الشعراء المكدّين لم يعفوه وهو أسير مقيّد من الالحاح بمدائحهم رجاء جوائزه، مثل الحصري الذي قاسمه المعتمد ما بيده. وتجمعت حوله زعنفة من شعراء الكدّية قال المعتمد فيهم: شعراء طنجة كلهم والمغرب/ ذهبوا من الأغراب أبعد مذهبِ سألوا العسير من الأسير وأنه/ بسؤالهم لأحقّ منهم فأعجبِ لولا الحياء وعزة لخميّة/ طي الحشى لحكاهم في المطلبِ قد كان ان سُئل الندى يجزل وإن/ نادى الصريخ ببابه اركبْ يركبِ». هذا الأمير الشاعر انتهى في أغمات شريداً طريداً معدماً وأكثرنا يحفظ من شعره ما يُتعظ به: «فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا/ فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعة/ يغزلن للناس لا يملكن قطميرا برزن نحوك للتسليم خاشعة/ أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا». المرابطون قدموا الفقهاء على الشعراء، وكانت معرفتهم باللغة محدودة لأنهم من أصول بربرية، وعندما مدح شعراء يوسف بن تاشفين ولم يتحرك لشعرهم سأله المعتمد: أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟ قال: لا أعلم ولكنهم يطلبون الخبز. وهو عندما قرأ رسالة من المعتمد الذي عاد الى دار ملكه فيها بيت الشعر: «حالت لفقدكم أيامنا فغدت/ سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا»، اعتقد أن المعتمد يطلب منه جواري سوداوات وبيضاوات. وشُرِح له معنى الكلام، فأمر أن يكتب للمعتمد «أن دموعنا تجرى عليه ورؤوسنا توجعنا من بعده». ولا بد من أن رأس ابن تاشفين شفي بعد نفيه المعتمد، وهذا لا يستحق مصيره مثل المستكفي، فقد سبقه عبدالرحمن المسكين الذي ثار عليه الناس واختبأ في أتون الحمام فأُخرج منه وهو في قميص مسود، وجيء به الى محمد الثالث المستكفي، فأمر بضرب عنقه. ولم تمض سنتان حتى ثار الناس على المستكفي الذي قيل عنه ان «همّّه لا يعدو فرجه وبطنه»، وفرّ لابساً ثياب النساء ومات مسموماً بيد بعض رجاله (ابن عذارى وغيره). المستكفي كان من بناته ولاّدة الشاعرة صاحبة الصالون الأدبي وملهمة ابن زيدون الذي قال فيها: «ربيب ملك كأن الله انشأه/ مسكا وقدر إنشاء الورى طينا». وهي التي قالت له يوماً: «ترقّبْ اذا جنّ الظلامُ زيارتي/ فإني رأيت الليل أكتم للسرّ وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا/ وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسْرِ». وانتهت ولاّدة في رعاية عشيقها الآخر ابن عبدوس، ما أثار صديقه السابق ابن زيدون الذي أرسل اليه رسالته الهزلية وهجاه ومعه ولاّدة في شعر أختار منه ما يصلح للنشر: «وغرّك من عهد ولاّدة/ سرابٌ تراءى وبرقٌ ومضْ هي الماء يعزّ على قابضٍ/ ويمنع زبدته من مَخضْ». كنت سجلت بعض الشعر الأندلسي بعد احتلال العراق، وهو أنسب للموضوع الذي أنا في سبيله، غير أنني أتجاوز التكرار في مثل «تحكّمت اليهود على الفروج» أو «وصار الحكم فينا للعلوج» أو «ولقد رجونا أن يكون بمدحكم/ رفداً يكون على الزمان معينا» وبعده: «فالآن نقنع بالسلامة منكم/ لا تأخذوا منا ولا تعطونا». وأختار من شعر ينطبق على زماننا هذا أيضاً قول ابن العسّال: «يا أهل أندلس حثّوا مطيّكم/ فما المقام بها إلا من الغلطِ الثوب ينسل من أطرافه وأرى/ ثوب الجزيرة منسولاً من الوسطِ ونحن بين عدو لا يفارقنا/ كيف الحياة مع الحيّات في سَفَطِ». ربما كان هذا شعور الفلسطينيين اليوم، ولعلي لا أعيش وقد أصبح شعور عرب آخرين. ابن العسّال قال أيضاً: «وموتوا كلكم فالموت أولى/ بكم من أن تُجاروا أو تجوروا». أما السميسر فله في أمراء زمانه: نادِ الملوكَ وقلْ لهم/ ماذا الذي أحدثتمُ أسلمتم الاسلام في/ أسر العدا وقعدتمُ وجب القيام عليكم/ إذ بالنصارى قمتمُ لا تنكروا شق العصا/ فعصا النبي شققتمُ». بعد كل هذا لا يبقى لنا سوى أبيات فلسفية لأبي عامر الشنتريني: «يا لقومي دفنوني ومضوا/ وبنوا في الطين فوقي ما بنوا ليت شعري إذ رأوني ميتاً/ وبكوني أي جزأيّ بكوا ما أراهم ندبوا فيّ سوى/ فرقة التأليف إن كانوا دروا». أقول، ضعنا ولا ندري.