افترض المحور الأساسي في الإستراتيجية النفطية الغربية منذ المقاطعة العربية في تشرين الثاني أكتوبر 1973 عدم إمكان ضمان تدفق مستمر للصادرات النفطية من منطقة الخليج إلى الأسواق العالمية. وبناء على ذلك توجهت الاستثمارات إلى مناطق جديدة، مثل أعالي البحار، من أجل إيجاد البدائل. كما حاولت الولاياتالمتحدة منذ عام 2003 ضمان الإمدادات من دول حليفة، مثل العراق. ولكن يتضح أنه في الحالين كلتيهما هناك صعوبات جديدة تواجه هذه الإستراتيجية. وفحوى هذه الإستراتيجية هو أن الصادرات النفطية من دول الخليج غير آمنة لأن النزاعات والصراعات في الشرق الأوسط مزمنة ومدمرة، ولا يمكن التنبؤ متى ستتوقف الإمدادات من أهم سلعة إستراتيجية في التجارة الدولية. لذلك يجب توفير مصادر نفطية بديلة ومضمونة للتعويض عن نفوط الخليج في حال انقطاعها أو توقفها، كما يجب إيجاد مصادر طاقوية مختلفة من فحم وذرّة ورياح وطاقة شمسية لتقليص استعمال النفط في الاقتصاد العالمي. ويجب الاعتراف أن للدول المستهلكة، الصناعية منها أو النامية، الحق في التأكد من تدفق الصادرات النفطية من دون انقطاع، وأن يستمر البحث عن نفوط جديدة ومصادر بديلة. فالمستهلك لا يريد أن ينتظر في طوابير أمام محطات البنزين، ولا أن يفاجأ بانقطاع التيار الكهربائي. ولكن الحقيقة أيضاً، هي أنه ليس من مصلحة الدول المنتجة للنفط توقيف الصادرات النفطية أو عرقلتها. وهي لا تقوم بذلك، فهي مهتمة بضمان الإمدادات لكي يعتمد المستهلك على النفط، وبأسعار معقولة، دون غيره من مصادر طاقوية. ومهما كان الأمر، فقد حققت شركات النفط العالمية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي نجاحاً باهراً في استكشاف النفط في المياه العميقة في أعالي البحار وذلك بفضل التقدم الذي حصل في علم الهندسة والكومبيوتر. وخير مثال على ذلك العمليات الإنتاجية في المياه البرازيلية والأنغولية والنيجيرية وبحر الشمال وطبعاً خليج المكسيك. وتنتج الولاياتالمتحدة نحو 1.5 مليون برميل يومياً من خليج المكسيك، أو نحو 15 في المئة من مجموع الإنتاج النفطي الأميركي البالغ نحو 10 ملايين برميل يومياً. والأهم من ذلك، يشكل هذا النفط من أعماق البحار البديل الأساسي للولايات المتحدة بعد النقصان في نفط ألاسكا والاضمحلال التدريجي للنفط الساحلي في الجنوب، وهو من ثم يشكل مفصلاً مهماً في تأمين الإمدادات النفطية المستقبلية. لكن الخطر في خليج المكسيك هو الدمار الذي يحصل سنوياً نتيجة الأعاصير. وعلى رغم تفاوت قوة الأعاصير وسرعتها واتجاهها من سنة إلى أخرى، إلا أن احتمالات الدمار موجودة، وبكثرة. فمنذ أيلول سبتمبر 2002، ضربت خمسة أعاصير إيسادورا، كلوديت، إيفان، بوني، ودنيس المنشآت النفطية في خليج المكسيك. وكان أكثرها دماراً إيفان أيلول 2004 الذي أوقف إنتاج نحو 47 مليون برميل من النفط و150 بليون قدم مكعبة من الغاز. وطبعاً دمار كاترينا هو الأسوأ. وعلى رغم أننا لن نعرف التفاصيل الكاملة إلا بعد فترة، إلا أن الإعصار غيّر معطيات الصناعة النفطية العالمية. فسجل النفط الأميركي الخفيف رقماً قياسياً الثلثاء الماضي مقداره 70.85 دولار، كما وصل سعر البنزين الى 3 دولارات للغالون، وأغلق النفط الخام مساء الجمعة على سعر 67.57 دولار. وبدلاً من التخوف من ارتفاع الطلب، يخيم الآن بفضل كاترينا شبح نقص الإمدادات، لا سيما في المنتجات البترولية، وذلك نتيجة لإغلاق المصافي على الساحل الجنوبي، وارتفاع أسعار البنزين. وهذا ما حاولت الولاياتالمتحدة تفاديه طوال الفترة الماضية. أما في العراق، الذي عانى كارثة بشرية مأسوية من نوع آخر في الأسبوع الماضي، فإن الآمال التي كانت معقودة عليه في توفير إمدادات نفطية جديدة وضخمة للأسواق العالمية قبل نهاية هذا العقد بدأت تتلاشى. ويعود السبب ليس فقط إلى الوضع الأمني المتردي، وهذا مهم لتطوير الصناعة النفطية، ولكن كذلك إلى الطريقة التي حددها الدستور المقترح لرسم السياسة النفطية التي تنم عن قلة خبرة مهنية ومحاولة للكسب المادي الذاتي. لقد وزع الدستور المقترح، باختصار، صلاحيات رسم السياسة النفطية بين الحكومة الفيديرالية والمحافظات والأقاليم، من دون تحديدها أو وضع الأطر اللازمة لذلك. والأنكى من ذلك أنه أعطى الصلاحيات غير المحددة في الدستور إلى الأقاليم والمحافظات. كما أنه جرد الحكومة المركزية من المسؤولية والصلاحيات في الحقول الجديدة التي ستكتشف مستقبلاً. كما أنه أعطي للأقاليم الصلاحية للتصديق على اتفاقات مسبقة كانت قد توصلت إليها مع شركات مغمورة من دون موافقة الحكومة المركزية. ويدعي المشرعون أن هذه خطوات من أجل التأكد أن السياسات المستقبلية لن تحتكر من جانب العاصمة وتمنع الغبن عن المناطق المنتجة. والحق يقال أن غبناً وإجحافاً طاولا المحافظات في عهد النظام السابق، ولكن اللوم في ذلك لا يقع على الخبراء والموظفين والعمال المسؤولين عن القطاع النفطي، بل على السياسيين. ونتوقع أن تتكرر الظاهرة نفسها في المستقبل وإن في شكل آخر، وبالذات لأن السلطة السياسية في الأقاليم والمحافظات الآن محتكرة من هذا أو ذاك من الأحزاب أو القبائل أو عصابات التهريب من دون رقيب أو محاسبة. ونشك جداً في أن تستطيع هذه المجموعات لوحدها أو معاً رسم سياسة نفطية رشيدة وعقلانية لمصلحة البلد. كما نشك جداً في أن تكون لهذه المجموعات معرفة الولوج في مفاوضات معقدة وفنية مع شركات عالمية ذات خبرة واسعة. والخوف أن هذه المجموعات ستضع مصالحها الذاتية أولاً وقبل كل شيء، وهذا ما بدأنا نراه فعلاً من خلال تسجيل الشركات النفطية الخاصة التابعة لعائلة هذا المسؤول أو ذاك. ومن غير الممكن في وضع كهذا، وفي غياب الأمن، أن يتمكن العراق من تحقيق الخطط المرسومة له للوصول إلى طاقة إنتاجية بنحو خمسة ملايين برميل يومياً مع نهاية العقد. وبما أن معظم المعاهد والدور الاستشارية كانت تتوقع أن يصل العراق إلى هذا المستوى الإنتاجي في عام 2010، ورسمت موازين العرض والطلب العالمية على هذا الأساس، يعتبر هذا الإخفاق ضربة أخرى لضمان الإمدادات النفطية في المدى المتوسط.