نشطت في السنوات الأخيرة هيئات الحوار الاسلامي - المسيحي، ولقيت تشجيعاً من جهات عدة بينها الفاتيكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني الذي توفي أخيراً. لكن الخطوة الأساسية الأولى في هذا الحوار جرت بين المملكة العربية السعودية والفاتيكان في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز والبابا بولس السادس، ومن ابرز ثمار الحوار صدور وثيقة عن الفاتيكان عام 1965 في عنوان"توجهات من أجل حوار بين المسيحيين والمسلمين". واستمرت السعودية في مواقفها التسامحية تجاه الأديان الكتابية، خصوصاً المسيحية، في العهود اللاحقة لوفاة الملك فيصل والى الآن. نشرنا الوثيقة التي أصدرها الفاتيكان، وهنا نتابع وجوهاً من الحوار الاسلامي - المسيحي الذي اعتمدته السعودية منذ أوائل الستينات. رحبت المملكة العربية السعودية برغبة مفكرين أوروبيين بالاجتماع بالعلماء في المملكة للتعمق في مفاهيم الشريعة الإسلامية وما يتصل بحقوق الإنسان في الإسلام. وطلبت وزارة الخارجية السعودية من سفيرها آنذاك في باريس الدكتور مدحت شيخ الأرض، منح أعضاء الوفد الأوروبي تأشيرات الدخول إلى المملكة. وبدأت الندوات المشتركة في مدينة الرياض ابتداءً من يوم الأربعاء السابع من صفر 1392ه الموافق 22 آذار مارس 1972 وترأس الوفد العلمي السعودي وزير العدل الشيخ محمد الحركان، وضم الوفد وكيل وزارة العدل الشيخ راشد بن خنين ، والشيخ عمر بن مترك وكيل وزارة العدل، والشيخ محمد بن جبير رئيس الهيئة القضائية العليا بوزارة العدل، الذي اختير بعد ذلك لرئاسة مجلس الشورى - رحمه الله - والشيخ عبد العزيز المسند، المدير العام للكليات والمعاهد الدينية في الرياض سابقاً، والشيخ محمد المبارك الأستاذ في كلية الشريعة في مكةالمكرمة، والدكتور منير العجلاني كبير مستشاري وزارة المعارف بالرياض سابقاً، والدكتور معروف الدواليبي المستشار في الديوان الملكي، والدكتور مدحت شيخ الأرض سفير المملكة في باريس، والدكتور أسعد محاسن، والدكتور أنور حاتم، وأنور عرفان ترجمان السفارة في باريس. وتألف الوفد الأوروبي من السادة: سين ماك برايد الأستاذ في جامعة دبلن ووزير خارجية ايرلندا السابق، والرئيس السابق لاتحاد المجلس الأوروبي والسكرتير العام السابق في اللجنة التشريعية الأوروبية. و ك. فاساك، أستاذ القانون العام في كلية بوزانسون"فرنسا"، ومدير قسم حقوق الإنسان في المجلس الأوروبي، ومدير المجلة الدولية لحقوق الإنسان. والمستشرق لووست، الأستاذ في الكوليج دو فرانس في باريس, وأستاذ الدراسات الإسلامية والمدنية الإسلامية، وجان لويس أوجول، السكرتير العام لجمعية الصداقة السعودية ? الفرنسية، ومن كبار المحامين في محكمة الاستئناف في باريس، وهو صاحب الاقتراح لعقد الندوة. افتتح الندوة وزير العدل الشيخ محمد الحركان، مرحباً بالضيوف وموجزاً مذكرته التي تحدث فيها عن مبادئ الإسلام في رعاية حقوق الإنسان وحمايتها وضمانها في شتى المجالات. وضرب على ذلك الأمثلة، واستشهد بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والوقائع التاريخية. وأشار إلى المذكرة التي قدمتها وزارة العدل إلى الوفد الأوروبي مترجمة إلى الفرنسية، وانتهى إلى القول:"إن الإسلام أسمى من ميثاق حقوق الإنسان، وأكثر استيعاباً، وأبقى على الزمن لأن مصدره إلهي". ورد رئيس الوفد الأوروبي ماك برايد، بكلمة ودية، ثم تتابع رجال الوفد الأوروبي في أسئلتهم، كما تتابع رجال الوفد السعودي في الإجابة عن الأسئلة والملاحظات المطروحة. وأثار ضيوف المملكة بعض النقاط الأساسية حول التشريع الإسلامي في اجتماعهم الأول، معلنين حرصهم على إثارة هذه النقاط، لأنهم انما شدوا رحالهم إلى هذه المملكة الإسلامية لتعميق مفاهيمهم في ما يتعلق بحقوق الإنسان في الإسلام، وانه لن يكون هناك من فائدة لاجتماعهم مع علماء الشريعة إذا لم يستفهموا عن بعض النقاط، وهم يعترفون بأنها نقاط حساسة، ولكنهم لا يريدون من ذلك نقداً ولا احراجاً، وأضافوا قائلين:"إنه من المفيد للسادة العلماء أن يسمعوها منا، وأن يفكروا فيها في ما بينهم من دون أن يجيبونا عنها الآن، لأن الزمان في تطور، والأفكار تتبع له في التطور، ولربما كان لهذا التطور أثر حتى في ما بين العلماء أنفسهم لما يستدعيه هذا التطور من خلاف في الرأي". ثم لخص الضيوف بصراحة مهذبة جميع النقاط التي أرادوها قائلين: "أولاً: إن تأكيد السادة العلماء على أن دستورهم وقوانينهم في الشؤون المدنية والجزائية والأحوال الشخصية تعتمد على القرآن الكريم فقط كما أنزل منذ أربعة عشر قرناً، هو في نظرنا شيء، يستحق البحث والملاحظة، لأن الحياة في تطور مع تطور الأزمان، وليس من المصلحة للإسلام، فيما نرى، بناء نظمه على القرآن في جميع ما أشرنا إليه أعلاه من الأحكام. لأن ذلك قد يسيء إلى القرآن نفسه مع تطور الحياة واختلاف الظروف. ثانياً: قضية العقوبات والحدود. ثالثاً: قضية المرأة. رابعاً: قضية التنظيمات النقابية المحظورة. خامساً: ثم السؤال عن السبب في عدم وضع دستور للبلاد، رغم أن جلالة الملك قد أعلن عزمه منذ سنة 1962 حينما كان رئيساً لمجلس الوزراء على وضع دستور كما جاء في إحدى النشرات الإعلامية التي تضمنت بيانه الوزاري حينذاك، والذي قرأناه فيما بين أيدينا من النشرات الموزعة علينا. سادساً: وأخيراً السؤال عن المحاكم الاستثنائية التي أخذت تسير عليها بعض الدول لحماية أمنها. وهل في المملكة وجود لهذه المحاكم التي يعترض عليها رجال العلم والقانون في العالم؟" وأجاب الوفد العلمي السعودي عن جميع النقاط التي أثارها الضيوف، ووجه الشكر على صراحتهم وأيدهم في قولهم، أنه لن يكون هناك فائدة من اجتماعهم مع علماء المملكة إذا لم يثيروا ما لديهم مما يستحق البحث والملاحظة، وأن ذكر الملاحظات لا يحرج العلماء بل لديهم صدور رحبة لتلقي كل سؤال وكل إشكال، وذلك بفضل القرآن العظيم الذي فرض عليهم هذا التلقي الكريم لكل من يحاورهم في قوله تعالى: وقولوا للناس حسناً البقرة: 83:2 وقال: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة النحل، 125:16، كما قال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن العنكبوت، 46:29. وقال: إن الإسلام يتناول في آن واحد كل معلوم يتعلق بصلات الإنسان مع قوى الغيب العلوية، وكذلك صلات الإنسان مع الإنسان. وان الدين في القرآن هو ما يتفق مع العلم والعقل والتفكير، لذلك يجزم المسلمون بوجوب اقامة كل حكم من أحكام شريعتهم على القرآن. وأينما كانت المصلحة فثم شرع الله، لهذا يجب أن يكون الإسلام قادراً على مسايرة تطورات الزمن المتجددة. لذلك اعتبر القرآن الكريم هو دستورنا ونظامنا الأساسي في الشريعة الإسلامية. ونبني عليه كل أحكام شريعتنا التفصيلية. وما جاء في القرآن من القواعد العامة لا يجوز فيه التغيير ولا التبديل. ومن هذه القواعد إعلان كرامة الناس أجمعين من غير تمييز ما بين إنسان وإنسان إلا بتقوى الله، وإعلانه أن الناس جميعهم أسرة واحدة ومن أب واحد، ومن أم واحدة وأن إلههم إله واحد. وشرح الوفد وضع النظام الأساسي في المملكة العربية السعودية، فهو من أجل تحديد سلطة رئيس الدولة وتصرفاته بحدود حقوق الإنسان الأساسية ليقضي على السلطة المطلقة، وليقضي على الزعم للسلطة المطلقة لرؤساء الدول على شعوبهم وبأنهم خلفاء الله في أرضه. وأعلن رئيس الوفد الأوروبي المستر ماك برايد، إعجابه بما سمع من حقائق عن الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان فيها، وقال: من هنا ومن هذا البلد الإسلامي يجب أن تعلن حقوق الإنسان لا من غيره من البلدان، وأنه يتوجب على العلماء المسلمين أن يعلنوا هذه الحقائق المجهولة عند الرأي العام العالمي، والتي كان الجهل بها سبباً لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين والحكم الإسلامي، عن طريق أعداء الإسلام والمسلمين، وألح أن تكتب للوفد هذه الأجوبة القيمة لتكون في أيديهم وثيقة مخطوطة يدافعون بها عن الإسلام ويشرحون بها الحقيقة لكل راغب في المعرفة. وقدم الوفد السعودي إلى رجال القانون المسيحي الأوروبي نص المذكرة التي وجهتها المملكة العربية السعودية حول شريعة حقوق الإنسان في الإسلام وتطبيقها في المملكة إلى الهيئات الدولية المختصة وترجمت إلى اللغة الفرنسية. حيث لم تنضم المملكة بعد إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والى الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وليس تنكراً لهدف هذا الإعلان العالمي، وهذا الميثاق الذي يتعلق بكرامة الإنسان. عرض الوفد القانوني المسيحي إمكانية استئناف الحوار على أن يشمل خفايا الشريعة الإسلامية، وطرق معاملاتها مع مواطنيها في الداخل ومع العالم الخارجي، وبخاصة ما يتصل بحقوق الإنسان، وان يتاح للوفد العلمي السعودي إمكان عقد لقاءات دينية بين الإسلام والمسيحية في العواصم الأوروبية، ورحب الوفد السعودي بمثل هذا الاقتراح البناء مؤكداً بأن الشريعة الإسلامية واضحة المعالم وليس لديها أمور تخفيها عن العالم، لأنها مكشوفة للجميع، ولديها كامل الاستعداد لتوضيح أي أمر يتعلق بالدين الإسلامي مع أي طرف من الأطراف الممثلة للأديان الأخرى لما فيه خير البشرية. وتم الاتفاق على أن يقوم الوفد العلمي السعودي بزيارة بعض العواصم الأوروبية الكبرى لهذا الهدف، وترك الوفد القانوني الأوروبي اختيار العواصم الأوروبية المقترح زيارتها، مع اختيار الوفود المسيحية التي يمكن اللقاء معها لتبادل المعلومات والآراء المشتركة عن الأديان، ومتابعة الحوار الحضاري معها، وفقاً لرغبة الملك فيصل بن عبد العزيز الذي أضفى على هذا اللقاء التاريخي مع العالم المسيحي بهاءً والفاً، ولرغبة البابا بولس السادس الصادقة لإزالة كل خلاف مع الديانة الإسلامية بالاشتراك مع مجمع الكنائس العالمي. وحرص الوفد السعودي العلمي على أن تكون اللقاءات بهدف مشترك بين الديانتين، وألا تستغل الحركات التبشيرية التي ترعاها مؤسسات مسيحية لها أهدافها الذاتية والتي كانت تعمل في ظل الاستعمار الغربي. رسالة من البابا إلى الملك فيصل في 24 نيسان ابريل 1974 زار رئيس غرفة أمانة سر الفاتيكان لغير المسيحيين الكاردينال سيرجيو بينيا دولي الرياض، وسلم رسالة إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز من البابا بولس السادس يعبر فيها عن تقدير البابا والمجمع المسكوني لجلالة الملك فيصل، بصفته"صاحب النفوذ الأسمى في العالم العربي والإسلامي تقديراً مشحوناً بإيمان عميق بتوحيد العالمين الإسلامي والمسيحي اللذين يعبدان إلهاً واحداً". تضمنت رسالة البابا إلى الملك فيصل رغبته الصادقة في استقبال الوفد العلمي السعودي الذي سيزور بعض العواصم الأوروبية، مع ترحيبه الحار بهذه الزيارة التي ستخدم الإنسانية أجمع وإقامة السلام الآمن في الكرة الأرضية، لذلك كانت رسالة البابا بمثابة دعوة رسمية للوفد السعودي ليلتقي البابا. وطلب الملك فيصل شخصياً من سفراء السعودية في العواصم الأوروبية، أن يوفروا للوفد السعودي كل الاتصالات واللقاءات مع الوفود الأوروبية، ومجلس الكنائس العالمي ومع رؤساء الدول في العواصم الأوروبية، وهذا ما ساعد على تسهيل مهمة الوفد وتحقيق أهدافها البعيدة، كما كان اهتمام البابا بولس السادس بالوفد كبيراً وله اثر بعيد، على أساس أن الوفد السعودي إنما يمثل الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية. وهذا ما عبر عنه البابا في كلمته الترحيبية بأعضاء الوفد، كما عبرت عنه كلمات الوفود الأوروبية الأخرى من خلال ما يتمتع به الملك فيصل من شخصية إسلامية كبيرة وسمعة عطرة لدى قادة دول العالم. حدد الوفد السعودي أهداف رحلته إلى أوروبا، بموجب كتيب صغير تم توزيعه على رجال الإعلام الغربيين وتضمن الآتي: " أن رحلة السادة علماء الدين السعوديين إلى أوروبا تهدف : أولاً: إلى متابعة ندوة الرياض، الملتئمة في آذارمارس سنة 1972 والتي كان محورها البحث عن حقوق الإنسان في علاقاتها بالأديان وبالدين الإسلامي عامة. ثانياً: إلى الانطلاق من فكرة فحواها أن الأديان تكون عنصراً ضرورياً لحقوق الإنسان، وبالتالي فمن الطبيعي أن تتحد جميع الأديان في سبيل حماية الفرد من كل جور وطغيان مصدره الإنسان. ثالثاً: وبوجه عام إلى إتاحة فرصة للقاء، وللمقابلة بين الشريعة الدينية في السعودية، وبين الشرع العلماني الفرنسي. وعقدت الندوة الأولى في باريس 23 تشرين الأول أكتوبر 1974 في مركز للمحاضرات الدولية في العاصمة الفرنسية. وتحدث رئيس الوفد السعودي عن مصادر الشريعة الإسلامية ومقاصدها، كمقدمة للتعرف على حقوق الإنسان في الإسلام، وعن مجمل حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في السعودية، وعن وضع المرأة في الإسلام. وتضمنت كلمة رئيس الوفد في الكتاب الأول: نبذة تاريخية عن السعودية، وكيفية تأسيسها في مطلع القرن العشرين بقيادة المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بعد تحرير مدينة الرياض عاصمة أجداده، ثم توحيد أجزاء السعودية المعروفة بحدودها اليوم عام 1350ه 1932 بعد أن كانت هذه الأجزاء إما قبائل متنقلة متناحرة جاهلة، أو مناطق صغيرة مجزأة بقيادات قبلية أو إمارات كانت محكومة من قبل الإمبراطورية العثمانية، بواسطة أمراء محليين، وقد تبنوا بأنفسهم وبإرادتهم الحرة النظام الملكي لدولتهم الموحدة، عوضاً عن النظام القبلي أو الإمارات المجزأة، واسندوا عرش المملكة إلى جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود على أساس الحكم فيها بالشريعة الإسلامية التي لا تميز بين قبيل وآخر، ولا بين حاكم ومحكوم أمام سلطانها والتي بفضلها تم لجلالة الملك عبدالعزيز آل سعود صهرهم في دولة واحدة وتحت علم واحد ذابت فيها النظم القبائلية، والأحقاد العشائرية وساد فيها الأمن والعدل والإخاء في جميع أنحاء السعودية من غير أي تمييز أو تفضيل في الحقوق والواجبات مما لا يعرف له مثيل في العالم اليوم. وقال: وهكذا فان المجموعة القانونية التي تسود هذه السعودية مستمدة جميعها من أحكام الشريعة الإسلامية في مختلف نواحي الحياة الدستورية، والتنفيذية، والقضائية، والتشريعية، التي تحدد جميعها بموجب أحكامها وقواعدها سلطات الحاكم الذي إنما يستمد سلطانه من قبل الشعب منذ ساعة إعلانهم له ملكاً. ولذلك فإن النظام الملكي الإسلامي الذي يخضع حقيقة لأحكام الشريعة الإسلامية وتحدد سلطاته بحدود مبادئها وقواعدها هو: أولا: ليس بنظام ملكي"مطلق"لأنه مقيد بأحكام الشريعة. ثانيا: ليس بنظام حكم"ثيوقراطي"لأنه إنما يستمد سلطاته من الشعب. ولذلك قد أخطأت جميع دوائر المعارف التي أدخلت نظام الحكم الملكي السعودي في مفهوم الحكم المطلق والحكم الثيوقراطي اللذين لا يتفقان مع الحكم الإسلامي. وإذا كانت المملكة العربية السعودية قد تبنت الحكم بالشريعة الإسلامية، فليس معنى ذلك أنها ترفض الأخذ بما تقضيه المصالح الحضارية الحقيقية التي توجبها مصالح الأمة، والتي لا بد للأمة منها لدوام حياتها وعزتها وقوتها مما تأمر به الشريعة الإسلامية نفسها، فالقضاء مثلاً: مستقل تمام الاستقلال في الإسلام، وقد أخذت الدولة بالتنظيمات القضائية العالمية على اختلاف درجاتها وضمن حدود الحاجة، وأنشأت القضاء الإداري. ولم تأخذ حتى الآن بالقضاء الاستثنائي، فكل إنسان وكل قضية تخضع للمحاكم العادية، لا فرق بين ملك وبين رجل من عامة الشعب، ولا بين قضية مخلة بأمن الدولة وبين قضية من الجرائم العادية. ولا ننسى هنا ما يتعلق بالقضاء الدستوري، فذلك موكول بموجب الشريعة الإسلامية إلى القضاء نفسه على اختلاف درجاته، وهو يرد كل قانون وكل نظام وكل تصرف لا يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية المجمع عليها، وهو بذلك يراقب دور التقنين والتنظيم والتنفيذ، وينصب نفسه كضامن للحق والعدل، ويحد من السلطات بأقوى مما تحد به السلطات في العالم الحديث عن طريق الدستور والقوانين، ولذلك قلنا: إن نظام الحكم الإسلامي ليس بنظام مطلق، مما هو مرفوض بالشريعة الإسلامية. وكذلك أخذت المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بأحكام الجنسية والتقسيمات الإدارية وأجهزة الدولة واختصاصاتها، بما هو معروف في العالم الحديث مما لا حاجة إلى شرحه والإطالة فيه. أما فيما يتعلق بالنظام الاقتصادي، فهو المنبثق أيضاً عن أحكام الشريعة الإسلامية على أساس حرية الفرد وصيانة الملكية الخاصة، مع مراعاة قواعد التخطيط الموضوع من قبل الهيئة المركزية للتخطيط، ومع إنشاء القضاء التجاري الخاص، والقضاء العمالي، وكل ذلك وفقاً للمبادئ العامة في الشريعة الإسلامية مما لا يختلف مع القوانين التجارية العالمية، إذا استثنينا تحري العقود الربوية الصريحة. ثم قدم رئيس الوفد وزير العدل في الكتاب الثاني تقريراً موجزاً عن خصائص المجموعة القانونية في المملكة العربية السعودية عن مصادر الشريعة الإسلامية قال فيه: ولإلقاء الضوء بايجاز على أحكام الشريعة الإسلامية التي يخضع إليها الحاكم والمحكوم في كل ما ذكرناه، لا بد من معرفة مصادرها وتتألف هذه المصادر من أربعة مصادر أساسية هي: أولاً:"القرآن": وهو الكتاب المقدس في الإسلام، والأصل الأول الذي تتفرع عنه بقية المصادر. ثانياً:"السنة النبوية": وهي الأقوال والأحكام والأعمال التشريعية الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحاً وتفصيلاً لما جاء في القرآن. ثالثاً:"الإجماع": وهو الرأي الإجماعي الذي يصدر عن علماء الشريعة في كل زمان، وتحت ارشاد القواعد والمبادئ العامة في القرآن والسنة وتطبيقاتها التفصيلية. رابعا:"الاجتهاد": وهو الرأي الفردي الذي يصدر أيضاً عن علماء الشريعة في كل زمان ومكان، وتحت إرشاد القواعد العامة في القرآن والسنة والإجماع، وما في ذلك كله من تفصيل أو تطبيق عليه. وبناء على ذلك فإن المجموعة القانونية للشريعة الإسلامية تتألف من مجموعة هذه المصادر الأربعة وتنقسم إلى مذاهب عدة تبعاً للاختلاف في الرأي في كثير من المسائل، وأن المذهب المعمول به في المملكة العربية السعودية هو المذهب الحنبلي، نسبة إلى مؤسسه الإمام أحمد بن حنبل. وصل الوفد العلمي السعودي يوم 24 تشرين الأول أكتوبر إلى روما، واستقبلهم السفير السعودي في ايطاليا الشيخ أحمد عبد الجبار وأركان السفارة وشخصيات رسمية من الحكومة الايطالية، الكاردينال سيرجيو بينيادولي رئيس الأمانة العامة لغير المسيحيين في الفاتيكان، وهو من الشخصيات الدينية المسيحية المعروفة ومن المتفتحين على الديانات وبخاصة الإسلام، لأن الطائفة الكاثوليكية معروفة بتعصبها لديانتها المسيحية على عكس الطوائف الأخرى. وذكر أن الكاردينال كان له دور بارز في إعداد وثيقة المجمع المسكوني الثاني التي أشادت بالشريعة الإسلامية، ومن المرحبين بالحوار مع الإسلام. وعقدت الندوة جلسة أولى يوم الجمعة 25 تشرين الأول أكتوبر بحضور الوفد السعودي وأقطاب رجال الفاتيكان وكان موضوع الحوار:"الثقافة... كوسيلة لتكافل الإنسان ومساهمة المسلمين والنصارى في توطيد السلام وفي احترام حقوق الإنسان". وختاماًً: ومن الموضوعات التي جرى التكلم عليها من طرف الكاردينال روسانو:"إن تعليم المسيحيين ونشاطهم، مقروناً إلى تعليم إخواننا المؤمنين بالله ونشاطهم، يعلق أهمية كبرى على علاقة الإنسان بالطبيعة، ليس فقط ليقي ضرر البيئة وتلوثها الكيماوي والفيزيائي، بل أن يحترم خليقة الله، سواء أكانت معدنية أم نباتية أو حيوانية. وقد تسلم الإنسان من الله سبحانه رسالة إنمائها واستثمارها بعقله ونشاطه. وإن طريق الجهاد الروحي الذي تفرض سلوكه الديانات الموحدة، يأخذ في هذا المستوى كل قيمته وكل مؤداه. فهي تقي الإنسان من التغرب ومن أن يصبح أسير اكتشافاته. إنها تعاونه على اكتشاف تدرج القيم، وعلى العودة إلى حياة الصلاة والعبادة، وهكذا يستطيع جيلنا أن يجد طريق التسامي الذي نسيه: طريق الهداية".