تُعتبر ماري نيميه من الكتّاب الفرنسيين البارزين وقد أصدرت لها دار غاليمار حتى الآن تسع روايات، منها" الزرافة"و"التنويم المغناطيسي في متناول الجميع"و"المداعبة"و"الذي كان يجري وراء العصفور"و"دومينو"... وكتبت ماري نيميه كلمات بعض الأغاني وعملت مع جوني هوليداي وبيير غيدوني وجولييت غريكو... وهي من مواليد باريس 1957. درست الأدب والمسرح وتعيش الآن في منطقة النورمندي. إنها المرة الأولى التي تتحدث فيها ماري نيميه عن والدها في روايتها"ملكة الصمت"دار غاليمار التي فازت بجائزة ميديسي، وهي أقرب إلى السيرة الذاتية منها إلى الخيال البحت. حين مات الكاتب روجيه نيميه وهو في السادسة والثلاثين وفي أوج مجده الأدبي، في حادث سيارة كان يقودها برفقة صديقته الحسناء الشابة والكاتبة الموهوبة سونسياره دو لاركون، كانت ماري، ابنته، في الخامسة من عمرها. إننا نقرأ في هذا الكتاب كل ما تتذكر عن والدها. كتب روجيه نيميه إلى صديق له في 27 آب أغسطس من العام 1957 ما يأتي:"وضعت أمس نادين بنتاً. وللحال أغرقتُها في نهر السين كي لا أسمع شيئاً عنها في ما بعد". بعد خمس وعشرين عاماً حاولت ماري نيميه أن تنتحر بان ألقت نفسها في السين. هل كانت محاولتها نتيجة أزمة اكتِئاب عابرة ؟ كلا، ثمة قوى خفية تتحكم فيها رغماً عنها فتجبرها على تنفيذ كلمات والدها. لاقت ماري نيميه صعوبات كبيرة في الكتابة مصدرها أنها ابنة كاتب كبير. ومن بين تلك العوائق أيضاً شعورها بالذنب وأن"عليها أن تستغفر والدها لأنها سرقت الكلام منه"ولا ننسى العائق الأكبر: تيتمها. لكن تلك الصعوبة تبدو لنا صغيرة إذا ما قارناها بما راحت الفتاة تعرفه شيئاً فشيئاً عن والدها وهي تفتش في أوراقه وتكشف النقاب عن أسراره وتسأل إخوتها وتقرأ ما كتب أصدقاؤه عنه وما نشرت الصحف... إن هذا الأب الذي كان معبود جيل من الكتاب مثَّل في نظر ابنته الخطورة. وكتبت تقول:"أليس من الأفضل أن يكون لنا أب ميت عوض عن أب يهدد بخطفك، بانتزاعك من أم تعبدها، من أب يبقر الأرائك ويحاول أن يخنق زوجته ليعود في اليوم التالي حاملاً إليها باقة كبيرة من الورود أو يصوب مسدساً على صدغ ابنه الصغير أو يحاول الانتحار". اكتشفت ماري أن والديها كانا على وشك الطلاق حين وقع حادث السيارة، واكتشفت أنها لم تكن ثمرة"حب عظيم"وأن والدها لا يتحمل أطفاله. قرأت في أوراق والدها تلك الجملة التي كتبها إلى الأديب جاك شاردون:"لا أرى في هذه الحياة شيئاً ما إلاَّ غباء وجودي، أمضي حياتي بين المكتب وغرف نوم الأطفال، يرهقني العمل كما يضنيني صراخ الأولاد...". لم تكن ماري نيميه يوماً معجبة بأفكار والدها اليمينية في السياسة/ كما لم تكن معجبة بروجيه نيميه الملكي، وهاوي السلاح، واللباس العسكري، والمولع بسيارات السباق. كان هناك خاصة ذاك الحكم الرهيب الذي أطلقه في اليوم التالي لولادتها والذي يبدو مزاحاً بلا عواقب لمن يجهل أثر جملة، أو بادرة وما يتركان في أعماق اللاشعور. جمال كتاب ماري نيميه وقوته يكمنان في هذا البحث العميق عن تأثير أبيها الخفي بعد موته. وسنقتصر على مثلٍ واحدٍ هو صعوباتها الفائقة في اجتياز امتحان قيادة السيارة الذي تقدمت إليه أربع مرات متتالية. لم تكن تستطيع أن تكبح السيارة في الوقت الملائم! ألم يكن ذلك بسبب ضربة المكبح التي سببت حادث السيارة والذي أدى إلى موت والدها؟ قدَّم لها أبوها من دون أن يعي خدمة عظيمة حين أرسل إليها، ذات يوم، بطاقة بريدية كتب فيها:"ماذا تقول ملكة الصمت؟"تبدو تلك الجملة للوهلة الأولى فخاً رهيباً، إنها طريقة أخرى للحكم عليها بالموت لأن الفتاة إذا ما شرعت في الكلام تفقد لقبها أي"ملكة الصمت"وبالتالي حب والدها. وتتساءل"كيف تستطيع أن تتكلم وألا تتكلم معاً؟". وجدت ماري نيميه مخرجها الوحيد في الكتابة. تقول في روايتها:"أليس الروائي هو الذي يروي حكايات في الصمت ؟ أليس هو الذي يتحدث وهو صامت؟". نادراً ما نرى كاتباً يُظهر ببراعة وذكاء لا يخلوان من السخرية والشجاعة كيف خط والد، من دون أن يدرك أبعاد كلماته، مسيرة حياة ابنته. وتكمن المعجزة في السؤال الساخر الذي يطرحه روجيه نيميه، بذاك العذاب الذي يسببه لابنته حين طرح عليها اللغز الذي يستحيل حله، ذاك اللغز الذي أفسح المجال لها أن تحله بأن تصبح"ملكة"الكتابة كما يسميها الكاتب دومنيك فرنانديز. انتظرت ماري نيميه سنوات طويلة قبل أن تكشف النقاب عن والدها وتواجهه. كان عليها أن تفهمه لتحيا، على حد قولها. ولكن من وجدت خلف تلك الواجهة المجهولة لوالدها؟ وجدت رجلاً قلقاً، معذباً، متهوراً، عنيفاً، غير مبالٍ بأسرته... إلاَّ أن ماري نيميه تصفح عن أخطاء والدها وتبررها لكنها لا تحفظ ذاكرتها أية ذكرى إلاَّ اللقب الذي أطلقه عليها:"ملكة الصمت". يمتاز أسلوب الكاتبة بالصدق والأصالة اللذين يسبغان على الكلمات قوة تبعث على التفكير. ذهبت الكاتبة في بحثها إلى الأعماق. وقد تبدو لنا للوهلة الأولى تلك السيرة الذاتية مفككة لأن الكاتبة تسترجع ذكرياتها كيفما أتت إلى ذاكرتها وهي تحاول أن تصور مشاعرها التي عاشتها وهي طفلة إثر الحادث المؤلم. ونجحت ماري نيميه بجملها التي تقطر حباً وبكلماتها البسيطة والبريئة أحياناً للطفلة الصغيرة التي كانت. كتبت تقول:"أود أن يروي لي أحد ما ماذا يعني وجود والدين. كيف يتصرف الأب؟"لذا حولت الذكريات التي التقطتها من أصدقائه رحيقاً راح يتشكل صفحة تلو صفحة. حين فتحت ماري نيميه درج الذكريات، أخرجت مزقاً من شريط حياتها حيث هربت أشباح الماضي الأليم. يشكل هذا الكتاب همسة خجلة خرجت بأسلوب مرهف، فهي تحث القارئ على أن يكتشف مؤلفات نيميه الوالد والابنة.