تحتفي أوساط ثقافية في الجزائر بالذكرى الثلاثين للشاعر جاك سيناك الذي ما زال ينعت ب"ابن الزنا" والذي مات قتلاً في قبو فقير كان يسكنه. شاعر كبير ومظلوم، تراسل مع كامو وقدّم رينه شار ديوانه الأول، ولعل الاحتفال بذكراه يرد اليه بعضاً من حقه ويرفع عنه بعض الظلم الجزائري الذي حلّ به. هو القائل "يا للجنون! أقول إنني جزائري، فيضحكون عليَّ". جان سيناك ليس سواهه لتلائمه هذه المقولة الثقيلة، ولن تكون لغيره في تاريخ كُتّاب الجزائر وشعرائها. جان سيناك، شاعر جزائري كما حكمت الغرابة، وكما أرادت فصول الوجع، تدحرج على خليج شائك من طفولته الى قمة مراكزه التي بلغها. جاء الى هذه الدنيا في 27 تشرين الثاني نوفمبر 1926 ثمرة هوى أو اغتصاب، من أم جزائرية وأب لم تحدد هويته، وسواء كان فرنسياً أم اسبانياً - كما يرجح البعض - فهو بالتأكيد من "الأقدام السود"، كما تقول العبارة، ما جعل الطفل "سيناك" يصطدم برفض المجتمع له، الذي وُجِد فيه منذ صغره، في منطقة "بني صاف" قرب عاصمة الغرب الجزائري "وهران". عاش تلك الطفولة المخدوشة التي كانت وراء احتمائه بالشعر، إذ باكراً اكتشف قوة الحرف في تخليص أعماقه من ألم الرفض والتهميش. كان في الثانية عشرة حين بدأ يكتب نصوصه الأولى، وكانت ربما البلسم الوحيد الذي خفف من نار جراحه، وقد شعر باكراً أيضاً في تلك الفترة أن بوابة الشعر هي مسلكه الوحيد لخوض الحياة عبر مواجهة الجميع بقدره. ففي الخامسة عشرة نشر أشعاره الأولى في الصحف وقد أصدر في ما بعد بفترة قصيرة مع مجموعة من الأصدقاء مجلة Soleil شمس، التي ظلت تصدر الى غاية سنة 1952 وكانت مجلة أدبية من الطراز الأول، ضمت كتابات كبار كتّاب الجزائر في ما بعد: محمد ديب، كاتب ياسين، مولود فرعون، أحمد سفريو... وغيرهم من الكتّاب الشباب في تلك الفترة، وحوت المجلة لوحات لرسامين من أهم رسامي الجزائر أمثال: باية، بشير يَلَّسْ وعبدالقادر غرماز. سنة 1943 مارس مهنة التدريس في "وهران" ثم التحق بالجيش في فوج "سلاح الطيران" في العاصمة، وهناك احتك فعلاً بالأوساط الثقافية. سنة 1946 كان لقاؤه ب"سيمون دي بوفوار" و"إيمانويل روبلس" ذا أهمية كبرى، ما أضاف الى حياته الكثير، بخاصة صداقته مع "روبلس" ثم في ما بعد مع "ألبير كامو" الذي راسله كثيراً. واعتبر المسرحي مصطفى كاتب من أعز أصدقائه أيضاً. سنة 1947 أسس حلقة الفن والأدب Lصژlian. وفي سنة 1949 قدم برنامجاً إذاعياً، إذْ كان له صوت إذاعي أهَّله لذلك، عَدَا الخامة الأدبية والثقافية التي كان يمتلكها، ولكنه لم يمكث طويلاً في الإذاعة، إذ استقال سنة 1954 وغادر الى فرنسا حيث استقر في باريس الى نهاية 1962، وأصدر مجلةپTerrasses "شرفات"، لكنها لم تتخط العدد الأول على رغم انها كانت ذات مستوى رفيع جداً، ولعلَّ السبب كان مادياً محضاً. عاد الى الاذاعة سنة 1963 ليقدم برنامجاً يومياً بعنوان "شعر على كل الجبهات" وشغل منصباً محترماً في الجامعة الجزائرية ثم تسلم الأمانة العامة لاتحاد الكتّاب الجزائريين خلال الفترة التي كان فيها مولود معمري رئيساً، وكانت أعلى المناصب التي نالها منصب مستشار الرئيس الأول للجزائر أحمد بن بلة في وزارة التربية. ولعلَّ هذا المنصب الذي رفعه الى القمة، كان نقمة عليه بعد انقلاب 1965، إذ هُمِّش في ما بعد لأسباب سياسية ليدخل مرة أخرى في نفق مظلم وتنقلب حياته رأساً على عقب، وتطفو على السطح عيوبه السابقة كونه "ابن زنا"، اضافة الى كونه أيضاً شاعراً شاذّاً جنسياً. وكانت كل هذه الصفات كافية لتجعله انساناً منبوذاً في مجتمع خرج من الحرب بنسبة أمية عالية تتحكم فيه التقاليد والأعراف حتى في أبسط سلوكاته اليومية. تراكمت عليه الديون حتى بلغت مبلغاً كبيراً، ولم يعد قادراً على دفع ايجار بيته فتركه وعاش في قبو مظلم وبارد عيشة أي متشرد من حثالة المجتمع، ولم يكن في إمكانه حتى مغادرة الجزائر الى فرنسا، فعاش كل حياته مناضلاً في صف الجزائر، من أجل حريتها واستقلالها، وأصر على انتمائه الجزائري رافضاً أن يكون فرنسياً. وفي قبوه المظلم والبارد ظل يكتب على نور شمعة، النور الوحيد الذي كان يضيء حياته الى أن قتل في القبو ذاته ليلة الثلاثين من آب أغسطس 1973، ومن الإجحاف في حقه أيضاً أن المجرم لم يُعرف والسبب البارز قد يكون عدم الاهتمام بمقتله. واليوم وبعد ثلاثين سنة من مقتله وتهميشه يُكَرَّم "جان سيناك" للمرة الأولى في المكتبة الوطنية في "الحَامَّة" العاصمة الجزائرية وقد نظِّم على هامش التكريم معرض ضم 20 مؤلفاً له ومخطوطاً، وعرضت دفاتره التي كان يكتب عليها، ومراسلاته، بخاصة تلك التي كانت من "كامو" كما الكتب التي أُهديت إليه وتحمل تواقيع أصحابها من كتّاب كبار تجاوزت شهرتهم أوطانهم الى العالمية أمثال: ألبير كامو، إيمانويل روبلس، ورينه شار قدَّم له أول دواوينه "قصائد" الصادر عن "غاليمار". وقرأت أشعاره مجموعة من أهم كتّاب الجزائر الفرنكوفونيين: رشيد بوجدرة، بولنوار، جمال عمراني، ليلى بوطالب، وجمال علي خوجة. ولعلَّ "سيناك" قد يشبه في نظر البعض الشاعر الجزائري جان عمروش، وآنا غريكي الشاعرة الفرنسية - التي شاركت في الثورة الجزائرية إبان الاستعمار الفرنسي فسجنت سنة 1957 على يد السلطات الفرنسية في سجن "بَرْبَرُوس" ثم نفيت من الجزائر - وجميعهم همشوا لأنهم أبناء مرحلة كولونيالية متوغلة في الماضي. لكن "سيناك" في الحقيقة لم يُهمش لهذا السبب، ولكن أريد له الاختفاء للأسباب التي سبق ان ذكرناها، كان كائناً ميتاً قبل اغتياله، فقد رافقه موته طوال حياته، وعاش معه جنباً الى جنب، الأمر الذي جعله يكتب متشبثاً بالكلمات المفعمة بالأمل مثل كلمة "الشمس" التي كانت توقيعاً له في بعض الأحيان، والتي جعلها عنواناً لأول مجلة أصدرها مع أصدقائه. لكن كلمات الأمل ومدلولاتها تتداخل مع حزنه وغصة الألم التي سكنته. ويبدو جلياً لقارئ شعره أنه كان يقول نفسه، وكان يتشبث بحبل الشعر رغبة منه في الخلاص من واقعه المظلم. وهناك قوة يعرف كيف يزرعها في معانيه الشعرية كما في قوله: "هذا الشعب أكبر من حلمي / أجمل الكتب عن الثورة / هي جدران مدينتي". كان مناضلاً من الطراز الرفيع، وكثيراً ما عَرَف أن يترجم ذلك النضال، ومن المؤسف أن فترة الاستعمار التي قال فيها هذا النموذج من الشعر كانت فترة غارقة في الفقر والعوز والموت والأمية، ولم يكن أحد، غير النخبة، ليفهم ذلك الحب الكبير الذي كان يكنه "سيناك" للجزائر وشعبها. ويبدو الاختلاف كبيراً جدّاً بينه وبين "ألبير كامو" مثلاً الذي كان يحب أرض الجزائر وبحرها وسماءها، ولكنه كان يكره الشعب الجزائري، ووصف كل جزائري في كتاباته ان كان رجلاً ب"العربي" وإن كان امرأة ب"المرأة القديمة" أو "العربية" على غرار كل الفرنسيين العنصريين، وكان ينادي بجزائر فرنسية. اما "سيناك" فناضل بشعره من أجل جزائر جزائرية، وفضَّل الهوية الجزائرية على الهوية الفرنسية التي كانت ستفتح له آفاقاً لحياة أفضل بكثير من تلك التي عاشها. والثورة التي غناها كان يراها في كل مكان، وكان مؤمناً بأن للشعر الثائر مفعول السحر لتغيير العالم نحو الأحسن، على رغم انه ظل شبه مقتنع بأنه "شاعر ملعون"، معبراً في ذلك عن ظلم الجسد الذي لم يختره هو، ونلمس ذلك في معظم شعره. ليلاً كانت تزوره جنية الشعر، تؤانسه حتى مطلع الفجر، كان كائناً ليلياً بامتياز، يخلد الى النوم نهاراً، ما يزيد من غرابته أمام الناس، ولكن أيضاً، كان هذا السلوك هروباً من المجتمع الذي رفضه، فقد كانت العتمة أو الخواء البديل الحقيقي لمجتمع لم يعرف أن يستفيد منه كرمز من رموز المقاومة والثقافة. كان يخرج ليلاً على ورق أو على بياض لم تدنسه الأفكار الرجعية، ويعيش بقلمه خاطاً قدراً آخر مختلفاً عن قدره. بالنسبة اليه الشعر لم يكن قضية، كان حياته الحقيقية التي عاشها تعويضاً عن كل الخسائر التي لحقته، وكان الوالد الذي تبناه. فقد كان غياب الوالد في حياته عقدة كبيرة رمت به نحو الشذوذ. أمَّا الشعر فكان الوالد الشرعي له والذي ظل يحتمي به الى أن واجه به الموت وتحرَّر نهائياً من متاعبه. ولعلَّ هذه العلاقة الحميمية التي جمعته بالشعر، والتي تبدو علاقة غريبة ومركبة هي التي جعلت من شعره في مطلع زمن الشعر الجزائري نموذجاً سبق عصره، هلَّلَ له النقاد آنذاك في الجزائروفرنسا، ولكن التهليل لم يدم طويلاً إذ قضت السياسة على مستقبله من دون أن يكون رجل سياسة في المعنى الدقيق. فهو لم يتعاط الشأن السياسي بعيداً من هواه النضالي وعشقه للجزائر حتى بعروبتها وهي، على خلاف شعراء فترته، وما بعد فترته، أثَّرت في شعره وبرزت في قصائده كما في قوله: "كن مفتخراً بقلبك" ذاكراً كلمة "القلب" كما تُنطق بلهجة أهل الغرب في وهران galbe أو كما في قوله "ستكون بسيطاً مثل حرف الألف" ذاكراً "الألف" كما هي Alif. كان المصطلح العربي ديباجة جميلة في شعره ودليلاً آخر على حبه للجزائر وشعبها. وقد عاش مظلوماً ومات مظلوماً في أرض ومجتمع أحبهما ولم يجد منهما سوى الإنكار. لهذا يبدو تكريمه اليوم اعادة اعتبار ثمينة له وإن كانت متأخرة ثلاثين سنة. "سيناك" المملوء حبّاً وأملاً انتظر في قبره كل هذه الفترة مردداً ربما احدى قصائده التي تقول: "والآن لنغنِّ الحب / فلا ثورة من دون حب". مُنعت أشعاره في الجزائر المستقلة، وكان بعض المثقفين يكرهونه باعتباره من "الأقدام السود" أو لاعتباره شاذاً مثل كاتب ياسين. الاّ أن الشعر كان شخصيته الحقيقية، وكتاباته التي وقف فيها مدافعاً عن الكتّاب والشعراء الفرنكوفونيين الجزائريين، هي بعيدة تماماً من أن تصنف ضد الهوية الجزائرية. كتبه لم تترجم الى العربية وكان أولها: "قصائد" صدر عن دار غاليمار سنة 1954 وقدم له "رينيه شار" وآخرها كان: "الفوضى" صدر سنة قبل مقتله 1972. أما الكتاب الوحيد الذي سُوِّق في الجزائر ولم يمنع فهو avant - corps وهو دراسة عن الشعراء الشباب الجزائريين. اليوم وهو يعود الى الجزائر، سيسجل التاريخ ان سنة 2003 هي سنته وأن 30 آب أغسطس لم تعد ذكرى مقتله بل مولده الحقيقي كما كان دائماً يحلم ويتمنى.