يوم 31 ايار مايو 1976 عبرت القوات السورية المدرعة الحدود اللبنانية بحجة الدفاع عن النظام القائم، ومنع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية من الاستيلاء على ادارات الدولة المنهارة. ويوم الثلثاء الماضي 26 نيسان / ابريل 2005 نفذت سورية آخر مرحلة من مراحل الانسحاب الكامل، عملاً بقرار مجلس الامن الرقم 1559. وهكذا أنهى قرار مجلس الامن فترة الوصاية والرعاية المحددة بسنتين ولكنها امتدت الى 29 سنة بموافقة القيادات اللبنانية والنواب الذين اختارتهم دمشق ليكونوا ممثليها وادواتها السياسية في البرلمان وخارجه. ولوحظ قبل الانسحاب الاخير ان عناصر مشتركة من القوات السورية واللبنانية قامت بتفكيك تمثال ضخم للرئيس الراحل حافظ الاسد عند مدخل بعلبك. كذلك قامت هذه العناصر بتفكيك تمثال آخر لنجله الراحل باسل كان مثبتاً في وسط ساحة شتورة. وقرب القاعدة الجوية في بلدة رياق البقاعية احتفل بوضع الحجر الاساس لنصب شهداء الجيش السوري في لبنان. وتحدث بهذه المناسبة رئيس هيئة الاركان العامة للقوات السورية المسلحة العماد علي حبيب، فقال:"ان قواتنا لم تدخل لبنان بناء على طلبها، وانما استجابة لنداء الحكومة اللبنانية وتلبية لرغبة الشعب اللبناني، وبناء على طلب الجامعة العربية. لم يكن لسورية في يوم من الايام مطامع في لبنان سوى الدفاع عنه والحفاظ عليه". وعلق قائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان على كلمة زميله العماد حبيب بإعلان اعترافه ان الشقيقة الكبرى منعت تقسيم لبنان وحافظت بتدخلها المكلف على سلامة العيش المشترك. ومثل هذا التفسير المتداول حول اسباب الدخول العسكري لسورية الى لبنان سنة 1976، لا يغني عن تقديم معلومات اضافية يمكن ان تظهر الجوانب التاريخية الخفية لتلك المرحلة الخطرة. يبدأ كاتب سيرة حافظ الاسد باتريك سيل، في وصف تلك المرحلة الصعبة فيقول ان الرئيس السوري تصور حصول نتيجتين محتملتين بعد تطورات احداث كانون الاول ديسمبر 1975: إما قيام دولة مسيحية منفصلة تتولى حمايتها اسرائيل، وإما تغلب الحركة الوطنية بدعم من الفلسطينيين، الامر الذي يؤدي الى تدخل اسرائيل. ورأى الاسد ان المجابهة العسكرية ضد اسرائيل قد لا تكون ناجحة، في حين ان التنحي جانباً قد يسقط لبنان بين يدي العدو. خلال تلك الفترة توثقت علاقة الاسد بالملك حسين بحيث ان رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين اتهمهما بإقامة مشروع الجبهة الشرقية، وحذرهما من اللعب بالنار. ولما زار العاهل الاردنيدمشق مطلع آذار مارس 1976 وضعه الرئيس السوري في صورة الاحداث التي تعصف بلبنان، واخبره ان انهيار النظام القائم سيؤثر على نظامه بفعل صدمة التغيير. واعرب الاسد عن مخاوفه من تدخل اطراف اقليمية ودولية، مثلما حدث اثناء الحرب الاهلية الاسبانية. ورأى الملك حسين ان المغامرة الفاشلة التي افتعلتها المقاومة الفلسطينية في الاردن سنة 1970 قد تنجح في الاستيلاء على الحكم في لبنان اذا ما استمرت الحركة الوطنية المحلية في دعمها. لذلك اخذ على عاتقه مهمة اقناع الادارة الاميركية بضرورة السماح للقوات السورية بالتدخل العسكري من اجل وقف الحرب ومنع قيام"كوبا"ثانية على البحر الابيض المتوسط يستقر فيها النفوذ السوفياتي. وبعد مشاورات مكثفة لم يذق خلالها الرئيس الاسد وضيفه طعم النوم طوال ليلة كاملة، قرر العاهل الاردني السفر الى واشنطن على الفور. ولم يجد اثناء محادثاته في البيت الابيض الحماسة المطلوبة لتأييد حجته القائلة بضرورة اهمية السماح للتدخل العسكري السوري في لبنان. وذكّره هنري كيسنجر بالموقف الاسرائيلي المعارض للتدخل السوري بالشأن الاردني اثناء انفجار احداث ايلول سبتمبر 1970. وبسب اختلاف الوضع في لبنان اقترح كيسنجر على الملك حسين السعي لدى الحكومة الاسرائيلية لعله ينجح في اقناعها بوجهة نظره. ثم ارسل السفير المتقاعد دين براون الى بيروت في مهمة عاجلة لكي ينقل اليه صورة الوضع المضطرب لعل في تحذير العاهل الاردني ما يدفع اسرائيل الى مراجعة موقفها. في المذكرات التي نشرها سفير اسرائيل السابق جدعون رفائيل في صحيفة"هآرتز"قال انه تلقى مكالمة هاتفية يوم 11 نيسان ابريل 1976 من شخصية بريطانية عرفت بقربها من تل ابيب وعمان. ودعته هذه الشخصية للقاء العاهل الاردني لأمر عاجل في لندن. ونقل عن الملك حسين قوله اثناء اللقاء ان"هناك حاجة في لبنان الى تدخل قوات لدولة يمكنها ان تضع حداً للقتال وتضمن احترام الاتفاقات التي وقعت بين الاطراف المتحاربة". وقال ان حمام الدم سيستمر بواسطة الاموال المتدفقة من جهات كثيرة بينها ليبيا والعراق، وان تدخلاً علنياً للجيش السوري يمكنه وحده الفصل بين القوات المتقاتلة. ولما سأله الديبلوماسي الاسرائيلي عن اهداف التدخل السوري حددها العاهل الاردني بثلاثة: اولاً وقف الاقتتال الضاري. ثانياً منع انهيار النظام القائم. ثالثاً الحؤول دون سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات والحركة الوطنية بزعامة كمال جنبلاط على الدولة. وقال رافائيل الذي شغل بعد ذلك منصب سفير في الاممالمتحدة والمدير العام لوزارة الخارجية ، انه حمل طلب الملك حسين الى رئيس الوزراء اسحق رابين. ورد رابين على الطلب برسالة مكتوبة نقلت يوم 28 نيسان 1976 الى الملك حسين عبر الوسيط البريطاني ربما يكون طبيبه. وتشير الرسالة التي كتبت بالانكليزية الى تأييد رابين ووزير خارجيته في حينه ييغال ألون، شرط الاتفاق على خطوط حمر يصار الى وضعها لاحقاً. ومع ان المعلق العسكري الاسرائيلي زيف شيف اعترف في مجلة"فورين بوليسي"بأنه لم يكتشف في ارشيف الخارجية اي اتفاقية مكتوبة تشير الى الخطوط الحمر، الا انه من جهة اخرى يؤكد حدوث تفاهم بين اميركا واسرائيل والاردن على التدخل السوري في لبنان. ثم ظهر هذا التفاهم في رسالة بعث بها الوزير ييغال ألون الى هنري كيسنجر الذي نقلها بدوره الى دمشق. وادرك الوزير كيسنجر بعد اجتماعه بالملك حسين، ان باستطاعة واشنطن الاستفادة من قلق سورية، لذلك قام بتعديل نظريته القائلة"ان التدخل العسكري السوري يحتم التدخل العسكري الاسرائيلي". وهكذا عرض على الادارة نظرية مناقضة مفادها"اذا لم تتدخل سورية، فان اسرائيل ستبادر الى التدخل". وتوقع كيسنجر ان المغامرة السورية ستؤدي الى ضبط الفلسطينيين واحتواء الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط وتفشيل طموحات موسكو وتشويه صورة الدور السوري لدى الدول العربية. يبقى السؤال الاكثر غموضاً والتباساً: لماذا ارسلت القيادة السوفياتية رئيس الوزراء كوسيغين الى دمشق بهدف اقناع الاسد بعدم الانزلاق في المستنقع اللبناني؟ اذا كان الجواب ان موسكو خائفة من انفجار حرب جديدة بين اسرائيل وسورية، فهي تعلم ان التدخل سيكون برضا الولاياتالمتحدة واسرائيل. وعلى الرغم من كل هذا فقد ارسلت كوسيغين الى بغداد اواخر شهر ايار مايو. ومن العراق حذر علناً سورية من مغبة التدخل العسكري. ولكنه فوجئ اثناء وصوله الى دمشق اول حزيران يونيو 1976 بأن القوات السورية عبرت الحدود. وعاد كوسيغين الى بلاده التي عاقبت دمشق بوقف تصدير الاسلحة وقطع الغيار مع حرمانها من المساندة المعنوية على الصعيد الدولي. ولم ترجع العلاقات بين الدولتين الى سابق عهدها الا عقب زيارة الرئيس انور السادات الى القدس. وحول هذه الازمة قال الاسد لباتريك سيل"ان الانتكاسة في العلاقات حصلت لأن الاتحاد السوفياتي لم يفهم طبيعة علاقاتنا بلبنان؟". ويستدل من هذه الجواب المبسط ان حافظ الاسد كان يريد طمس المخاوف التي اجتاحته عقب سقوط كل المناطق اللبنانية في قبضة قوات منظمة التحرير الفلسطينية ورجال الحركة الوطنية. وكان الاسد يشعر بأن هاتين القوتين تستعدان للانقضاض على آخر معاقل القوات اللبنانية في منطقة كسروان، وان البواخر التجارية راحت تنقل آخر الهاربين الى قبرص. ومن المؤكد ان قلقه قد ازداد بعد الزيارات المفاجئة التي قام بها مبعوثو الزعيم كمال جنبلاط الى العواصم العربية في مهمة خاصة تتعلق بالضغط على سورية لمنعها من التدخل في لبنان. وكان من المنطقي ان تزداد مخاوف الاسد عندما بلغه ان القيادة السوفياتية طلبت من الرئيس صدام حسين محاكاتها في الاعتراف بالجمهورية اللبنانية الجديدة. عندئذ تبلورت الخطة السوفياتية في ذهن الاسد، وايقن ان ما فشل ياسر عرفات في تحقيقه سنة 1970 في الاردن سيتكرر انتاجه في لبنان بغطاء محلي. وهذا ما دفع الكرملين الى ارسال الرجل الثاني في القيادة بهدف منع سورية من افشال الخطة الرامية الى جعل لبنان قاعدة المنطلق لنفوذها على المتوسط. والمعروف ان موسكو راهنت على اسرائيل في السابق بأن تكون موطئ نفوذها عبر اول مليون مهاجر يهودي قاموا بتدشين نظام"الكيبوتز"بواسطة مؤسسين هاجروا من روسيا وبولونيا والمجر ورومانيا. خصوصاً ان تسعين في المئة من قادة عصابات ال"هاغاناه"و"اتسل"و"ارغون"كانوا من اصول روسية ولكن بن غوريون اقنع رفاقه بأن الرهان على دولة واعدة وقوية مثل الولاياتالمتحدة، اضمن لمستقبل اسرائيل من الاعتماد على بريطانيا العجوز وروسيا الشيوعية. وهكذا التقت طموحات الحلفاء الثلاثة حول الحرب اللبنانية التي رأت فيها موسكو ساحة جديدة لتأمين حضورها المؤثر على المتوسط. كما رأى فيها ياسر عرفات فرصة ذهبية لتحويل الجنوب اللبناني الى ساحة قتال مفتوحة ضد اسرائيل، يدعمها من الداخل نظام جديد يحكمه كمال جنبلاط من دون عوائق النظام الطائفي المقيد لطموحاته السياسية. وهذا ما يفسر جواب ابو عمار عندما سأله اسحق رابين ما اذا كان قد خبر فن الحكم، فقال بالايجاب مدعياً انه حكم لبنان منذ توقيع اتفاق القاهرة واعلان دولة فتح لاند في الجنوب. بل هذا ما يفسر كلام العاهل الاردني للرئيس الاسد بأن انتصار موسكو وحلفائها في لبنان يشكل الخطر المباشر على نظامه، لأن الثورة الفلسطينية ستندفع باتجاه سورية في حال استولت على الحكم. وعندما اعلن ابو اياد ان طريق القدس تمر في جونيه، انما كان يشير الى ازالة الصعوبات المحلية التي قال فيها:"نحن نحارب داخل لبنان لكي يسمحوا لنا بالحرب على الحدود". عندما يقول المسؤولون السوريون ان تدخل الاسد في لبنان منع"الديسبورا"المسيحية، يكون كلامهم صحيحاً، وانما في اطار المحافظة على سلامة نظامه ايضاً. ذلك انه احبط بتدخله العسكري خطة تغيير النظام اللبناني يوم قرر منع الاتحاد السوفياتي من توظيف الحرب لجني مكاسب سياسية. وفي الوقت ذاته منع ياسر عرفات من ايجاد دولة بديلة من دولة فلسطين يعوض بواسطتها عن فشل تجربته السابقة في الاردن. وربما يفسر هذا الاخفاق عمق الكراهية التي حملها أحدهما للآخر. علماً بأن المطلعين على خفايا الامور يؤكدون ان دوافع الكراهية تعود الى عبارة قالها ابو عمار على الراديو يصف فيها افراد الجيش السوري ب"الارانب"عقب الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982. بعد محاولة تغيير النظام اللبناني من قبل ارييل شارون، تدخل حافظ الاسد بواسطة المقاومة اللبنانية ليمنع هيمنة اسرائيل على لبنان. وكتب زيف شيف في هذا الشأن يقول ان طرد النفوذ الاسرائيلي جعل من لبنان دولة اكثر عروبة واكثر التصاقاً بسورية. وظل هذا الوصف صحيحاً مدة 22 سنة، اي الى حين صدور القرار 1559. ومع ان العماد علي حبيب نفى ان تكون لسورية مطامع في لبنان، الا ان استمرار وجودها العسكري والسياسي والاقتصادي مدة 29 سنة، شجع المتظاهرين على خلق المناخ المعادي الذي وظفته اميركا وفرنسا من اجل تطبيق القرار 1559. مرة اخرى يتساءل اللبنانيون عن طبيعة النظام الذي سينشأ بعد الانسحاب السوري، وما اذا كان المجتمع الدولي سيسمح لدمشق بلعب دور اقليمي في المستقبل؟ يؤكد الديبلوماسيون العرب في واشنطن ان رفض الادارة الاميركية تمديد فترة السيطرة السورية على لبنان مقابل التعاون في العراق، قد ساعد على خلق واقع جديد يصعب تبيّن ملامحه السياسية. وربما تبرز هذه الملامح عقب الانتخابات النيابية التي يُراد لها ان تكون حرة ونزيهة ومعبرة عن رأي المتظاهرين لا عن رأي المحكومين! * كاتب وصحافي لبناني.