نجوم مهرجان"كان"هذا العام، كثر ومتنوعون، من جيم جارموشبفيلمه الجديد الى الممثلة الإيرانية نيكي كريمي بفيلمها الأول، وصولاً الى أمير كوستوريتسا، نجم النجوم في"كان"هذه المرة بترؤسه لجنة التحكيم. ومع هذا مؤكد أن"النجم"الكاني الذي سيحظى بأعلى درجات الاهتمام سيكون"شبحاً اسطورياً"طالعاً من غياب دام خمسين عاماً، ذلك ان مهرجان"كان"قرر هذه المرة أن يحتفل، على طريقته، بالذكرى الخمسين لمقتل جيمس دين، في أشهر حادث سيارة في القرن العشرين... إذا استثنينا الحادث الذي أودى بالليدي ديانا. أساطير السينما كانت كثيرة طوال القرن العشرين. بل لعل هذا القرن لم يعرف كثيراً من الأساطير خارج نطاق السينما. من هنا لم يكن برنارد شو مخطئاً - كما يؤكد النقاد - حين قال ان الإنسان القديم كان يبجل تماثيل من حجر وخشب، اما الإنسان المعاصر فيبجل تماثيل من لحم ودم. كذلك لم يكن الفيلسوف الفرنسي إدغار موران مغالياً حين كرّس كتاباً بأكمله لدراسة نجوم السينما وأساطيرها. والأسماء حاضرة لتأكيد هذا: غريتا غاربو، رودولف فالنتينو، مارلون براندو، مارلين ديتريش، وصولاً الى سعاد حسني وأحمد زكي في سينمانا العربية... وعشرات غيرهم. "بعض هؤلاء صنعته حياته، وبعضهم صنعه موته". وهناك من بينهم،على اية حال، من صنعته حياته وموته معاً... وهنا يخطر على البال إسمان: مارلين مونرو وجيمس دين. وإذا كان عالم السينما.. وغيره قد احتفل دائماً بمارلين مونرو واحتفل بذكراها، لأن حياتها لم تكن ككل حياة... وموتها لم يكن ككل موت، فإن"الاحتفال"بجيمس دين كان أكثر تواضعاً، حتى وإن كان مقتله قبل يومنا هذا بنصف قرن بالتمام والكمال، قد اشعل شبيبة اميركا كلها، ويكاد يلخصه عنوان فيلم حقق عنه لاحقاً:"المراهق الاميركي الاول". وربما تكمن غرابة الأمر هنا بالتحديد... فجيمس دين الذي قتل وهو يقود سيارته"البورش"بسرعة جنونية وهو في الرابعة والعشرين من عمره، لم يكن لعب البطولة إلا في ثلاثة أفلام، رحل من دون أن يكمل ثالثها. أما ما قبل ذلك فكانت أدواراً صغيرة في بعض أفلام لا أهمية لها... وأدواراً في شرائط تلفزيونية مزرية، حتى وإن كان المسرح أعطاه فرصاً جيدة، ربما افضلها حين لعب دور الفتى العربي في مسرحية"اللاأخلاقي"المقتبسة عن اندريه جيد، فنال عن دوره أول جائزة في حياته. بعد ذلك سينال جائزة عن كل دور سينمائي مثله، تقريباً. ومع هذا حين مات جيمس دين كتب فرانسوا تروفو -المخرج الفرنسي الذي كان لا يزال ناقداً -"إن هذا الفتى لم يكن يعرف شيئاً عن فن التمثيل!". ولكن هل كانت"شبيبة"أميركا - والعالم من بعدها - تصر على ان يكون نجمها ممثلاَ رائعاَ، في زمن أفاق المراهقون على واقع جديد بادئين ثورتهم الوجودية وفرض حضورهم في العالم، بعدما كانوا اتهموا مجتمع الآباء بأنه قاد العالم الى الحرب العالمية الثانية، وها هو الآن - أي عند بدايات الخمسينات - يقود"شبيبة"اميركا الى الموت في حرب كوريا؟ سؤال عبّر من خلاله النقاد عن التحولات التي كانت بدأت تسود المجتمع، تحولات كان جيمس دين من روادها. الشبيبة حين تتماهى والحال أنه إذا كان ثمة من إطار تاريخي حدد أسطورية جيمس دين، فإنه ذلك الظرف تحديداً... ففي ذلك الحين كانت الاجيال الجديدة بحاجة الى بطل:"بطل من لحم ودم، لا بطل شاشة مزيناً مبرمجاً مبهرجاً"كما تصرّ بعض الدراسات. وبعد هذا هل يهم إن كان البطل قصيراً،"قصير النظر، لا يعرف كيف يضحك، ويمثل كما لو أنه يتناول طعام العشاء في حديقة عامة؟"على حد تعبير أحد النقاد. طبعاً، إذا كان الملايين حزنوا لمقتل جيمس دين المبكر، فإن عناصر في حياته الخاصة، لعبت دوراً في ذلك: مثلاً كونه قد ربي يتيم الأم - إذ ماتت أمه وهو في التاسعة - بعيداً من أبيه، الذي عهد بتربيته الى أعمامه"وكونه مارس عدداً كبيراً من الأشغال الوضعية، إذ فضل ان يعيش حياته بدلاً من متابعة دراسة الحقوق. غير ان العنصر الرئيس يظل في دلالة صغر سنه، إذ توج باكراً في هوليوود"كان واحداً منا... كان يشبهنا". هكذا صرخ ألوف من الذين جعلوا من جنازته أكبر جنازة في تاريخ هوليوود، بعد جنازة رودولف فالنتينو، قبله بعقدين تقريبا، مع فارق اساسي هو ان مودعي فالنتينو اعتبروا انفسهم يدفنون أسطورة بعيدة المنال، اما مودعو جيمس دين، فرأوا انهم يدفنون جزءاً من ذاتهم، إذ تماهت الشبيبة معه، أكثر مما تماهت مع أي فنان آخر طوال القرن العشرين. ولا بد من أن ننقل في هذا الصدد، عن إدغار موران، قوله ان جيمس دين ظل"يتلقى"7000 رسالة اسبوعياً، حتى بعد سنوات من رحيله. وإذا كان هذا كله قد نسي بعض الشيء من جمهور عريض لن يفوته ان جيمس دين لو كان لا يزال حياً بيننا لبلغ اليوم الرابعة والسبعين من عمره... فإن احتفال مهرجان"كان"في دورته التي تبدأ بعد ايام بالذكرى الخمسين لرحيل النجم الأسطورة، ستعيده الى الأذهان... ذلك أن دين سيكون بالتأكيد نجم النجوم في دورة هذا العام... كلاماً، وعرضاً لأفلام، واستعراضاً لصور من حياته، وصولاً الى ما سيصدر عنه من مطبوعات وكتب. على الطريقة الأميركية ومن الواضح ان هذا سيضع اسطورة ذلك الشاب المتمرد امام امتحان جدي. شاب متمرد؟ أجل.. بالتأكيد. فهذا ما كانه جيمس دين، ثم هذا ما عبر عنه، ليس فقط في الأدوار التي لعبها في افلامه الثلاثة الرئيسة، بل كذلك الافلام الكثير التي حكت عنه بعد موته، ولا سيما منها فيلم روبرت آلتمان"جيمس دين ستوري"1957 الذي كان أول ترسيخ لأسطورته. وهذا الفيلم يروي لنا كيف أن الفتى الذي ولد العام 1931 في ولاية انديانا، ليموت بعد ذلك في العام 1955 في كاليفورنيا، اتسم منذ وفاة أمه، بطابع قلق ومتمرد، عزز منه قصر قامته الملحوظ لاحقاً، وقصر في نظره لم يبرأ منه أبداً. وهو بعد طفولة مرتبكة بدأ دراسة الحقوق في سانتا مونيكا في العام 1949 لكنه سرعان ما تخلى عنها في العام التالي. مفضلاً ان يكسب حياته بممارسة عدد من المهن على الطريقة العصامية الاميركية. اما اوقات فراغه فكان يتركها لممارسة الرياضة واليوغا والعزف على الكلارينيت، والأهم التجوال على دراجته النارية. فجأة اكتشف ان في إمكانه ان يكون ممثلاً. درس فن التمثيل في الكلية الجامعية في لوس انجيليس. حاز بعض الادوار في التلفزيون... وإذ رأى ان المسألة يمكن ان تكون مجدية، انضم بسرعة الى"استوديو الممثل"، في وقت أعطي بعض ادوار صغيرة في افلام طواها النسيان اليوم مثل"انتبه أيها البحار"و"من رأى فتاتي". أما أهم ما حدث في حياته حينها، فكان أن إيليا كازان لاحظه وهو يمثل دور الفتى العربي على المسرح، فأدرك انه امام ظاهرة مهمة.. وهكذا، أعطاه بطولة اول فيلم كبير له"شرقي عدن".. وكان ذلك في العام 1955، العام نفسه الذي مثل فيه فيلميه الكبيرين التاليين"ثائر من دون قضية"و"العملاق"، ليلقى حتفه أول الخريف بحادث سيارة. وهذه الأفلام الثلاثة لا تزال حية وطازجة كما لو انها حققت امس، ربما بسبب وجود جيمس دين فيها، او ربما بسبب"انها افتتحت سينما تنظر نظرة اخرى الى الحلم الاميركي"... بما في ذلك أنها كانت بين أول الافلام التي جعلت مراهقاً يتصدر احداثها. والجمهور تبع ذلك التجديد، بخاصة ان المخرجين الثلاثة الذين حققوا تلك الأفلام، نيكولاس راي لثائر من دون قضية" وجورج ستيفنسن "العملاق" بعد إيليا كازان، كانوا من المجددين، سيكولوجياً وموضوعياً في السينما الاميركية. ثم خصوصاً، أن ناتالي وود،"فاتنة الجمهور"كانت في مواجهة جيمس دين في"ثائر من دون قضية"، فيما كانت اليزابيث تايلور، في عز صباها وتألقها، في مواجهته في"العملاق"... كل هذا جعل من جيمس دين ما عرفه الجمهور بعد رحيله، وقبله... ومع هذا إذا كان ثمة من صورة علقت دائماً في ذهن الجمهور، فهي صورة ذلك الفتى، في"العملاق"يحمل بندقيته، فيما اليزابيث تايلور، بكل عظمتها، جاثية عند قدميه تتوسله.