ألف صورة للطائر غير الموجود"عنوان المعرض الذي يقام في غاليري"كلود لومون"الباريسية ويتضمن أعمالاً لسبعة فنانين من مختلف الجنسيات ومن بينهم، من العالم العربي، الفنان العراقي ضياء العزاوي والفنان الجزائري بن عنتر. أما الأسماء الأخرى فهي على التتالي: كامينيه وكوشي وموروا وفيليكوفيك وزادكين. لوحات كثيرة معروضة في الطابقين اللذين تتألف منهما صالة العرض الأنيقة، وهي تنقسم إلى أقسام عدة يرتبط كل قسم منها بأحد الفنانين العارضين. والأعمال المعروضة منفذة بتقنيات مختلفة يتزاوج فيها الزيتي والمائي والحبر الصيني والحفر والغواش والأقلام الملونة. وهي وإن كانت تعكس أساليب متنوعة لكنها تنطلق كلها من موضوع واحد هو القصيدة التي كتبها كلود أفلين الذي ولد في باريس عام 1901 وتوفي عام 1992 وكان مديراً للمتحف الوطني للفن الحديث. القصيدة تحمل عنوان"صورة الطائر غير الموجود". كتبها أفلين في العاصمة الفرنسية عام 1950 وهي تروي، بصورة بسيطة ونديّة، قصة طائر لم يوجد، وليس الذنب ذنبه إذا كان الخالق الذي خلق كل شيء لم يأت به إلى الوجود. وهنا يستطرد الشاعر فيمنح القصيدة بعداً غرائبياً لا تغيب عنه سمات البراءة والطفولة، وهذا ما يعكسه السؤال الفلسفي الذي تقوم عليه القصيدة. فالطائر غير الموجود يشبه طيوراً كثيرة موجودة في الطبيعة. لذا، وضمن منطق القصيدة ذاتها، فإن الحيوانات غير الموجودة تشبه الحيوانات الموجودة مع فارق واحد هو أنها بلا اسم. ومن هنا جاءت تسمية الطائر بالطائر غير الموجود. وقد يكون هذا الطائر نائماً أو أنه ينتظر أن يُسمح له بالوجود. وهو يريد أن يعرف ما إذا كان في إمكانه أن يفتح منقاره وما إذا كان له جناحان، وما إذا كان قادراً أن يغطس في الماء تماماً كطائر حقيقي. يريد أيضاً أن يسمع شدوه. أن يخاف من الموت في أحد الأيام. إنه حلم الطائر غير الموجود، أي هو نفي للحلم، وهو شبيه بنا، نحن البشر، بالذين لا يرضون عن شيء أبداً. وتنتهي القصيدة بالتساؤل:"وكيف تريدون من العالم أن يكون بخير في ظروف كهذه؟". هذه القصيدة التي ترجمت إلى ست وأربعين لغة بما فيها اللغة العربية التي تحمل توقيع عيسى مخلوف، حاضرة في كل الرسوم المعروضة إلى جانب بعض الرسوم التي كان أنجزها كاتب القصيدة نفسه. إلى ذلك يُعرض عدد من الكتب الفنية التي أنجزها بعض الفنانين المشاركين في المعرض ومنها كتاب فخم وأنيق لضياء العزاوي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أعمال العزاوي تشكل في المعرض لحظة مضيئة، بلغتها التشكيلية العالية، وإيحائيتها المعبّرة. وكتاب العزاوي الذي يتضمن القصيدة باللغات الثلاث: العربية والفرنسية والإنكليزية، يمثل إلى أعماله الأخرى المعروضة تحفة قائمة بذاتها تختصر إلى حد كبير مناخات الفنان في العقد الأخير. هذه اللمسة الحديثة بتلاوينها العذبة دفعها الفنان إلى أقصى الحدود مستعيناً بمختلف التقنيات بما في ذلك البرامج المعلوماتية. هكذا يصبح الطائر في لوحة العزاوي موجوداً وله اسم ويطير في فضاءات رحبة. إلى جانب تجربة العزاوي تلفتنا مشاركة بن عنتر من خلال أعمال تنضح بطاقاتها التشكيلية والحِرفية. رسم بن عنتر طائره بالحبر الأسود على خلفية استعمل فيها الحبر الصيني وكذلك بعض الألوان التي تأخذ شكل أغصان مائية. وبدا طائره، من خلال تخطيطه السريع والمحدّد المعالم، شبيهاً بذاك الطائر الذي رسمه الفنانون القدامى على جدران مغارة لاسكو في فرنسا. بن عنتر من الفنانين القلائل الذين يخوضون غمار الحداثة من دون التخلي عن الطابع الحرفي للعمل الفني الذي يمدّ لوحته بمزيد من الحرفة والصقل. وطائره على غرار الطيور التي رسمها العزاوي لا يأتي من مناطق نفسية داكنة مشحونة بالسواد كتلك التي تطالعنا في الأعمال المتينة التي رسمها فيليكوفيك، السوداء الفاحمة منها أو تلك التي يبدو فيها الطائر بقعة سوداء على خلفية من الأزرق غير المكتمل. ولا تأتي أيضاً من المناطق الآلية الميكانيكية الحادة التي تطالعنا في أعمال الفنان كوشي والتي يبدو فيها الطائر طائرين اثنين يتبارز الواحد منهما مع الآخر. يبقى أن نشير إلى أن كلود أفلين كان منح"المتحف الوطني للفنون الحديثة"مجموعتين فنيتين منفذتين على الورق كان قدمهما له عدد من الفنانين الذين استوحوا من قصيدته ومنهم: بيسيار، سيزار، ماسون، ميوزتش، وزادكين... تتألف المجموعة الأولى من مئة وثمانية أعمال منحت للمتحف عام 1963 وعرضت في"متحف مركز جورج بومبيدو"عام 1978. أما الهِبة الثانية فكانت عام 1982 وتتألف من ستة وثمانين رسماًً. وفي هذا السياق يأتي معرض غاليري كلود لومان"ألف صورة للطائر غير الموجود"امتداداً للمعارض السابقة وتحية لكلود أفلين الذي نذر حياته للفن والجمال.