فيما تختلط الرؤى بين صرامة السؤال الفلسفي وعبق الشاعرية يقف الناقد حائراً من"أنا"جاك دريدا ومرآته النرجسية. هذه الأنا الكاتبة والمنكتبة هي التي رأى اليها دريدا"محشورة"في ابداعها تارة بين أوراق تتكدس وأخرى بين شاشات تتعاقب، حتى جعل منها اشكالاً يستحيل حسم آلاته بين ريشة وحاسوب الكتروني، كما يستحيل تحديد وظيفة الأصابع المجتمعة والحانية والأخرى الضاربة والعدوانية. فالأصابع اذ تعالج الحروف تخلق للكلمات عيناً غريبة ترصد مبدعها وتجعله يحس برهبة القول المرتحل عنه والذي فيه مدحه أو تسفيهه! هذه هي رؤى أو أسئلة جاك دريدا في كتابه"ورقة الآلة"الصادر عن دار غاليله في باريس، والذي يستهله بسخرية العنوان الأول:"آلات كاتبة بغير أوراق"أي بغير وسيط يحمل بصمات صاحبه ليصير بها إرثاً يعود اليه المؤول تأويلاً والبليغ رمزاً واستعارة والناقد تفكيكاً جينيالوجياً لعله يصل الى الجذور! ودريدا اذ يقول ورق الآلة أو آلة الورق فإنه يعني ان هذه الكلمات المركبة لا تنعت احداهما الأخرى بل تستقل كل منهما بقامة منفردة يحاذرها الفاعل كلما حاول أن يترك أنفاسه بين خطريهما! فإذ تتعب الورقة وتنفد تحلّ اللعنة بالآلة وتروح تبحث عن جحافل جديدة من الورق لتصنع منها العالم وتخزن أخطاءه ومظالمه! فالورقة تبدع أبداً كاتباً ينهكها وقارئاً يشهد لها أو عليها، وهو ما أبدعته قديماً الحجارة الهيروغليفية ولوحات الطين المسمارية اذ حملّها السلف قديماً أسراره وطلاسمه وتعاويذه، بعد أن روّض الحجر وأنطقه وأحرق الطين ونقشه!! أما السؤال الذي يعرض لدريدا:"هل تسمّى هذه المنظومة الانسانية كتباً؟ أم نصوصاً؟ ولِمَ يتعذر تحديد ما يسمى"كتاباً"؟ ألأن الكتاب يقاوم ويرفض تقطيع أوصاله أو اختزالها؟ الأنه كائن حي لا يكتمل إلا بوحدته ولو بعثرها النقاد؟ فالكتاب الذي يعنيه جاك دريدا هو المنفصل عن آليات الكتابة والطباعة، لأن كل كتابة مطبوعة ليست"كتاباً"!! فالكتاب برأي دريدا يستعصي على التحديد، وهو منذ سَمَته اللاتينية القديمة biblion أسندته الى لفظة"بيبلوس"بغير ان تُكني باللفظ كتاباً وانما وحدة لها بداية ونهاية تحمل لقارئ يحترمها معنى يحرّم عليه المساس به أو تقطيعه أو تحويله! هذا كان عند اللاتين أما اليونان فقد سموا الكتاب بنسخ البردى الحيّ الذي تحول الى ورق للكتابة. وما بين اللاتينية واليونانية يعود بنا التاريخ الى انحياز الكتبة والمؤرخين وانشقاق حقيقة الكتابة بين اختراع الحرف وما سبقه من هيروغليفية تصويرية! ومن ثم جاء الطين بألواحه ومساميره ينافس البردى والحجر ويتربع فوق العرش ويتسمى بملحمة كانت مفتتحاً للفكر الغيبي والانساني والمدني والبدائي تلك هي"جلجامش"التي لم يتجاوز الفكر الفلسفي ولا الديني أياً من أسئلتها، بل انه لا يزال يدور حول نواتها ويسأل هل للخلود من زهرة؟ ثم يعود جاك دريدا ويسأل: ماذا لو صار العالم شاشة الكترونية بغير أوراق، فهل تنفصل الكتابة عما سميّ قديماً بنسخ البردى الحي وتغرق في متاهات التحديث التي من دون نسخ ومن دون حياة؟ هذه الكتابة التي أشكلت آلياتها على المبدعين تناولها موريس بلانشو منذ العام 1959 في كتاب سماه"الكتاب الآتي"! وقد جعل الآتي ملارميه يرتجف من ضياع أصوله اذ رأى ان الكتاب يغرق، وان مستقبله ينكر ماضيه، فاستدعى القراء/ الضيوف وأسلم المجاذيف اليهم وترك لهم انقاذ الفريق ورحل عنهم! ولما رأى هايدغر الى الآلة التي تعالج النصوص قال:"ان الصناعة اليدوية هي انبل الصناعات، لأنها المهنة التي يحترفها المفكر والفيلسوف والمعلِّم وعلى هؤلاء أن يخلصوا مهنتهم من خطر يتهددها". وكان هايدغر على يقين بأن صُنع"الآخر"هو عمل يدوي لا آلي! فالآلة التي قللت من قيمة اليد المبدعة، أفقدت اليد فرديتها وخاصيتها هي التي وحدها تكتب قبل أن توقّع! وهكذا رأى هايدغر انه من غير الشرعي المقارنة بين كتابة يدوية وأخرى آلية، حتى ولو أن الآلة هي أيضاً يدوية! ولما أخذ جاك دريدا بمقولة هايدغر قال:"كنت أكتب بالريشة حتى قررت استبدالها بالآلة، اذ ذاك شعرت بنوع من"العظام المر"ونزحت عن حميمية كانت لي الى مكان عام لا فرادة فيه. فالريشة كانت توحي لي بقشعريرة دينية لأن لها طقوسها، ولأنها فن يشبه"الليثورجيا"أو رسم الايقونات! فالآلة التي تجعل النص أكثر وقاحة وأكثر جرأة وأكثر سهولة وأكثر وضوحاً تسلبه برأي هايدغر ما احتشد به من مناورات اللغة والأسلوب والرمز والاستعارة! ففي عمل الفكر الذي يشترط هايدغر ان يكون"يدوياً"تأتمر اليد العاملة بالعين التي ترصد حركة الأصابع وهي تمسك الريشة العارية تنتظر مرتعشة لقاء الدفء بين صقيع البياض وزهوة المداد الذي سيرصعه! هذا ويرى جاك دريدا ان الكاتب الذي يستسلم للآلة فإنه يُسلِّم نفسه لقدرٍ غبي يعبث به، اذ يملي عليه نهاية الصفحة وطولها وامتلاءها وعدم تجازها. هذه المواجهة بين المبدع والآلة، تريك من الآلة وجهاً ظاهراً هو شاشتها وتحجب آخر هو وجه مخترعها الآمر والناهي وكأنه"بطريرك"تمرس طويلاً في ألعاب التخفي والاحتجاب! فالذي يلجأ الى الآلة لا بد من أن يعلن جهله بأسرارها وبرامجها التي لا تعرفها الريشة التي تفيض بما تملأه بها! وتتخلى عنها باستهتار وخفة، اذ لا برامج لها عند الابتداء وعند الاقفال. فالريشة تعانق دموع الشمع وتنهمر معها، وهو عناق غريب عن الآلة التي لا تعرف الا الشحن وقوة التيار وانذاراته! الريشة تبقى وفية لعبق المبدع وبصماته الأولى والثانية والثالثة التي تسعى الى كمالها، أما الآلة فتفرض عليه أن يقتصد بمغامراته وبوحه لتظهر منه وجهه الوقح الذي اكتمل وغابت عنه زلاته! فالريشة تحضر مع المبدع في كل"ذواته"المتهالكة والمتعثرة والمتعبة، أما الآلة فلا تحضر منه الا وجه البراعة والقوة بغير اكداس الورق العتيق الذي استنزف منه الروح والعين والأصابع. فالريشة التي تغفو بين الأصابع وتقبل بسجنها الطويل بغير كلفة ليس مثلها الآلة بإيقاعها الآخر السريع الذي يمحو من الذات بعض ذاتها بغير أن يترك أثراً. فالآلة تريك الابداع الآلي يأتي اليك في أبهى كماله وتعدك بأن الكمال البهي قابل للتحول الى ما لا نهاية طالما تعدك بالمحو والتغيير وعدم الثبات! ففي الآلة يتداخل الأمس والآن حتى لا يعود الأمس أمساً، وفي هذا التداخل يصير النص هو الحاضر الوحيد القابل للتعديل من دون جراح أو شقوق أو ندوب تدل عليه! أما الريشة فإنها تبقي الجراح فضاحة فوق الورق، وفي تداعيات الذاكرة، وفي التشطيب، واستعادة الخلق قبل أن تتداعى في سكون الأرشيف ويمتنع عليها التحول أو الصيرورة. ومما يقوله جاك دريدا اذ يقارن بين الريشة والشاشة:"ان نصاً يتهادى فوق الشاشة هو نص يخفي جراحه ليختلف أبداً عن نص يسقط منهمراً في ريشة تنتظر مخاضها قبل أن يجف فيها المداد. هذه الحركة الناشطة بين نص آلي لا تحترف الانحناء أمامه وبين ريشة ترغمك عليه يرى فيها جاك دريدا مشهداً يقول فيه:"ان النص الآلي يراقب صاحبه وكأنه عين آخر غريب وبغير اسم. هذا الغريب المنفصل عنا يبعث فينا رهبة القول ودقته وضبطه، فهو السيد ببرامجه وتقنياته وأنت الأسير. أسير نظامه يمليه عليه ويمتحنك في أكثر لحظاتك حميمية"! هذا الترف الفلسفي الذي حسمه هايدغر اذ اعتبر ان الكتابة هي عمل يدوي، عاد اليه جاك دريدا في زمن العولمة والتكنولوجيات التي تجتاحه ليقول:"ان الورقة هي الأنا"لأنه لم يكلم سواها ولم يترك أثراً الا في طياتها. فالورقة برأيه هي تعيين الفعل المحسوس والمرئي والشاهد: فلولا الأوراق لما كان للرسام والموسيقار والشاعر والفيلسوف والرياضي والفيزيائي أن يوقّع لوحة أو معزوفة أو معادلة أو نظرية. فمن عظمة الورق أن يكون طاهراً نقياً بنقاوة العذارى لا البغايا. فالورقة يجب أن تكون"بلا دنس"وقابلة لشرف التوقيع عليها، لأنها وحدها تردد أصوات أصحابها. فالورقة/ المسند هي حاملة الصوت وفيها تنام لذات العين والأذن، وتجاور الأمس واليوم كما تجاور المكان والزمان. وهكذا يرى جاك دريدا الذي كثرت أوراقه ان الاسم الذي يليق بالورقة هو"الوشم الصامت". ومن المعروف ان جاك دريدا منذ وقّع عهده من الورق، أخذه سحر الصفحات والأرقام ومنعه من التخلي عن دفتر جيب صغير يدوّن عليه كل ما هو غير قابل للامحاء، لئلا تنمحي أسراره! ففي الورقة سحر أقرّ به فرويد ثم حاول أن يتجاوزه، فوقع في خيانات ذاكرته وثقوبها. هذا السقوط في ثقوب الذكرة وبهتانها عالجه جاك دريدا بتثبيت أوراقه العذراء بين ما سماه"دفتي الديمومة"ليكون له من دفتي قوله بديل يقوم مقام ذاكرته! واذ يؤكد جاك دريدا على عذرية الورقة وشغفه بها فإنه يذكرنا بعمل يدوي آخر قامت به بينيلوبه وهي تنتظر عودة أوليس وذاك كان حياكة كفن تنسجه نهاراً وتحله ليلاً. فالنسيج بخيطانه يحكي الانتظار الذي حوّل بينيلوبه الى استعارة تشبه من بعض وجه أخبار شهرزاد التي كانت تنقض النهار بأخبار الليل تحيك فيها القصص وتضجّ وحيدة بصوتٍ يخلب لب شهريار. وتذكرنا أوراق جاك دريدا المعشوقة بعشق همنغواي لغريب واحد متفرد ينتظر أن يُفرج همنغواي عن أوراقه وهو يقول له:"عليك بالشمع الطري تسد به آذان أصحابك فلا يسمع واحد منهم غناء الحورية في الشيخ والبحر"! ناقدة وكاتبة لبنانية