هنالك توتر حقيقي بدأ يظهر إلى العلن في العلاقات المعقدة والحميمة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وهذا على رغم بذل الطرفين أقصى الجهد لإخفاء ذلك. طبعاً، إن موضوع الخلاف الأبرز هو استمرار إسرائيل في توسيع مستوطنات الضفة الغربية في خرق فاضح لخريطة الطريق. وقد أكد الرئيس بوش أكثر من مرة بأنه لا يوافق على"توسيع المستوطنات"، ومع ذلك فإن آرييل شارون رئيس حكومة إسرائيل لا يزال مستمراً في البناء. وأعلنت إسرائيل في الأسبوع الفائت عن خطط لبناء خمسين بيتاً في مستوطنة الكانا، وهي جزء من كتلة آرييل الواقعة داخل الضفة الغربية على مسافة ستة كيلومترات من الخط الأخضر. يضاف إلى هذا مشروع آخر أكثر مثاراً للخلاف وهو بناء 3500 وحدة سكنية في مستوطنة معالي ادوميم الكبرى بحيث يتم ربطها بالقدسالشرقية وتعزل المدينة عن القسم الخلفي العربي وتقسم الضفة الغربية إلى قسمين. ويراهن شارون على أن الظروف الصاخبة التي تمر بها إسرائيل بشأن الانسحاب من غزة لن تسمح لبوش بأن يتجرأ بممارسة ضغط يؤدي إلى نشوب أزمة سياسية في إسرائيل من شأنها أن تطيح شارون من الحكم وتقضي على مشروع الانسحاب. وهذا آخر ما يريده بوش الذي راهن بكل تمنياته على انسحاب إسرائيل من غزة كخطوة أولى لاتفاق شامل. ولا تكتفي أميركا بطلب تنفيذ الانسحاب من غزة في هذا الصيف بل تريد من شارون إزالة 45 نقطة استيطانية مخالفة للقانون والمضي فوراً بتطبيق خارطة الطريق التي تنص على تجميد الاستيطان كلياً. غير أن شارون يحاول على العكس استغلال الموقف الراهن للمضي في توسيع الاستيطان وإكمال بناء الجدار الأمني، الأمر الذي يعني الاستيلاء على ما يقرب من عشرة في المئة من الضفة الغربية إضافة إلى ضم القدسالشرقية وضواحيها التي جرى توسيعها إلى أقصى الحدود. يتضح من كل ذلك أن رؤية شارون لكيان فلسطيني مجزّأ ومشلول وخاضع للهيمنة الإسرائيلية تختلف تماماً عن رؤية الرئيس بوش لدولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة. وهذا الوضع يعكس خلافاً عميقاً بين الطرفين. فأميركا تعارض أي توسع إسرائيلي لأنها تشعر بعد وفاة ياسر عرفات وانتهاء الانتفاضة المسلحة بأن هناك فرصة قلما تتوفر طوال جيل كامل بالوصول إلى حل دائم للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. فإذا نجح بوش في تحقيق ذلك فسوف يعتبر عمله إنجازاً سياسياً خارقاً. وقد يمحو ذلك أثر الأخطاء الفاضحة في حرب العراق ويدخل التاريخ كرئيس أميركي عظيم. وأما شارون فيهمه تدعيم بيئة إسرائيل الجيوسياسية أكثر من عقد اتفاق سوف ينطوي لا محالة على تنازلات ترابية بما في ذلك في القدسالشرقية. ولقد بدأ شارون فعلاً بمحاولة تقويض مركز محمود عباس الرجل المسالم الذي انتخب رئيساً للسلطة الفلسطينية واصفاً إياه بالضعيف وغير الفاعل والعاجز عن ضبط المتطرفين في صفوف جماعته فضلاً عن تفكيك ما يسميه شارون"ببنية الإرهاب". ظل حرب العراق هنالك مؤشرات أخرى بدأت تظهر على الساحة وهي تشير لوجود توتر بين واشنطن وتل أبيب. من ذلك مثلاً استمرار مكتب التحقيق الفيديرالي أف بي أي في التحقيق بالعلاقات المريبة بين بعض المسؤولين في وزارة الدفاع وإسرائيل وذلك عن طريق جماعة اللوبي الصهيوني في أميركا ايباك. وموضوع الخلاف الآخر هو اشتراك إسرائيل مستقبلاً في تطوير سلاح الطيران الأميركي وصنع ما يسمى ب"قاذفة الضرب المشتركة"Joint Strike Fighter . وتتفق المصادر الأميركية والإسرائيلية في تأكيد أن واشنطن جمدت مشاركة اسرائيل في هذا المشروع عقاباً لها على قيامها بإمداد الصين بالأسلحة بما في ذلك التقنيات الحربية المتقدمة المطورة أو الممولة من قبل أميركا. ولقد نقل عن مسؤول في وزارة الدفاع قوله أن أميركا قلقة من"الخروق العديدة"للاتفاقات القاضية بعدم بيع هذه التقنيات للصين. ولعل مصدر التوتر الأهم يكمن في عواقب حرب العراق. إذ لم يعد سراً أن إسرائيل أسهمت بقوة إما مباشرة أو عن طريق أصدقائها النافذين في الإدارة، في دفع أميركا لمهاجمة العراق وغزوه واحتلاله. وكانت النتيجة أن دمر العراق وأضحى بلداً ضعيفاً جداً، وهو مرشح لأن يبقى على ضعفه طيلة جيل أو أكثر، فلا يشكل بعد اليوم أي خطر على إسرائيل. غير أن الثمن بالنسبة لأميركا كان فادحاً جداً سواء بالرجال أو بالمال. هذا فضلا عن المشاعر المعادية لأميركا التي أثارتها هذه الحرب في العالمين العربي والإسلامي. ويبدو أن أميركا تقوم حالياً بتصويب الهدف. إذ نقل بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع والمهندس الرئيسي للحرب إلى البنك الدولي. وأما زميله دوغلاس فايث، صديق إسرائيل الحميم الذي جعل مكتب الخطط الخاصة في البنتاغون يفبرك معلومات استخبارية مزيفة حول أسلحة الدمار الشامل التي يملكها صدام حسين، فسيترك وزارة الدفاع في هذا الصيف. وفي سعيه لاتخاذ سياسة أكثر توازناً قام البيت الأبيض بتعيين أحد كبار الإعلاميين النافذين من أجل تحسين العلاقات مع العرب والمسلمين، الأمر الذي لا يروق لإسرائيل. الموقف من إيران وبالإضافة إلى استمرار إسرائيل في الاستيطان في الضفة الغربية، هنالك سبب مهم آخر للخلاف بين واشنطن وتل أبيب وهو التقييم المختلف للتهديد الذي يشكله برنامج إيران المزعوم لصنع الأسلحة النووية. فخلال نصف العام الماضي كان كبار المسؤولين الإسرائيليين يعلنون بصخب أن برنامج إيران النووي يشكل تهديداً"وجودياً"لبلادهم... وهي نغمة أخذت الصحافة الإسرائيلية ترددها يومياً. وتدعي إسرائيل باستمرار بأن قدرة إيران على صنع الأسلحة النووية تقترب من"نقطة اللاعودة". ولقد ضغط شارون على بوش لمعالجة موضوع إيران، إما بضرب مواقعها النووية أو بمطالبة مجلس الأمن بفرض عقوبات عليها. ولكن وجهة نظر أميركا - كما اتضح ذلك خلال زيارة شارون الأخيرة للرئيس بوش في مزرعته في كراوفورد تكساس هي أن إيران لن تستطيع صنع القنبلة قبل السنوات الأولى من العشرية المقبلة. فليس هنالك إذن أي تهديد فوري فضلاً عن التهديد"الوجودي"المزعوم. وعبثاً عرض شارون الخرائط التي أعدتها مخابراته والتي تشير إلى المواقع النووية الإيرانية المشبوهة. غير أن هذه المشكلة ليست سوى الجزء المنظور من حجة أقوى لا تزال خافية عن أنظار الناس، وخلاصتها أن واشنطن تعتقد الآن بأن إسرائيل، وربما للمرة الاولى، لا تواجه أي تهديد كان من أي من جيرانها. فالمسألة واضحة تماما : العراق تم تدميره، ومصر والأردن عقداً صلحاً مع إسرائيل، وليبيا نزعت سلاحها بنفسها وشحنت ما كانت تملكه من أسلحة الدمار الشامل إلى أميركا. وأما سورية فقد ضعف مركزها واستقرارها بعد اضطرارها للانسحاب من لبنان. وفي ما يتعلق بإيران فإنها تتفاوض الآن مع الأوروبيين على وقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم، وأي تحرك عدواني من طرفها يمكن ردعه. وأما محور طهران - دمشق - جنوبلبنان، فقد أصيب أيضا بالضعف. أجل إن حزب الله ما زال محتفظا بسلاحه ولكن ذلك هو فقط مسألة وقت، ريثما يحتل المكان الذي يستحقه على المسرح السياسي اللبناني. وعليه فإن الحجة الأميركية تقوم - بحسب مصادر موثوقة - على أن إسرائيل يجب أن تغتنم هذه الفرصة الفريدة لإقامة سلام شامل مع جيرانها، بل والتفكير بنزع جزء من سلاحها التقليدي وغير التقليدي. فأي فائدة والحالة هذه من الاشتراك بصنع"قاذفة الضرب المشترك"- أفلا يمكن إقناع إيران بالتخلي عن طموحاتها النووية إذا ما أقدمت إسرائيل من طرفها، وكخطوة أولى نحو شرق أوسط خال من السلاح النووي، على فتح مواقعها للتفتيش كما اقترح الدكتور محمد البرادعي رئيس وكالة الطاقة الذرية منذ زمن طويل؟ كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.