يجد الاهتمام بالمسيرة الحكومية فحواه في دقة اللحظة السياسية التي يجتازها الوضع اللبناني. سابقاً، تراجعت الحماسة لأمر التشكيلات الحكومية، فمنذ نفاذ اتفاق الطائف، وُضعت اليد السياسية على التسمية والتكليف والاستيزار والتوزير. سبق ذلك نزع عصب مطرد لنفس الاعتراض اللبناني، في مناحي الحياة الاجتماعية المختلفة. كان ذلك موضع رضى من الأكثريات الطوائفية العائدة الى نعيم "المشاركة في الحكم" ولم ينغّص صفاء "الوطنية الجامعة" انين فريق طائفي وازن، او تذمر هوامش طوائفيات مستبعدة. تغير المشهد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فحضر الخارج الدولي بوزنه، رافعاً الغطاء عن الوجود السوري، المكلف باسم الدولي ? الإقليمي بإدارة الشأن اللبناني، ومعلناً نيته إعادة صوغ قواعد اللعبة السياسية الداخلية اللبنانية، بالتوافق مع ما يراه للبنان من موقع في "التشكل الدولي الجديد"، العودة الى "ثابت الحسم" الخارجي ضرورية حتى إشعار آخر، وذلك كي يستمر الانتباه مشدوداً الى امرين متلازمين: الحذر من ابعاد الوزن الخارجي الحاسم داخلياً، والانتباه الى الحجم الحقيقي اللبناني الداخلي في موازين التطورات الأخيرة. الحذر لا ينفي الإفادة من الظرف الدولي، بل يدعو الى الواقعية في قراءته وفي طريقة توظيفه. والانتباه، لا يلغي الداخل بل يشدد على معاينته موضوعياً، ويدعو الى تطويره وتجاوز عثراته. على هذه الخلفية التي لا تنسب الى التدخل الخارجي احكاماً قدرية، ولا تعطي الداخل قدرات كلية، تعاين "الاستشارات" الحكومية ونتائجها، بصفتها تعبيرات متنوعة عن اداء طبقة سياسية لبنانية، حديثة النعمة سياسياً غالبيتها الساحقة وقليلة الدراية "وطنياً" وضئيلة الخبرة في التعامل مع قضايا كبرى، تطاول حاضر الوطن ومستقبله. التأريخ لهذه "الطبقة" منذ التسعينات وحتى اليوم يثبت ان منحى تراجعياً حكم اداءها، مثلما تحكم بنوعية التداول في "نادي الأسماء" المنتسبة إليها. اساس ذلك، تقدّم إحكام القبضة "العربية" على مفاصل السياسة اللبنانية، وعلى النزول عند رغبات "الهيمنة" في مقابل اقتسام "الغنم الداخلي"، بل القبول "بالمقسوم" منه. لقد بدا او مسؤولية هذه الطبقة عن الداخل، ترحل تباعاً من صفوفها، بالتناسب مع مقادير ترحيل صناعة القرار اللبناني الى خارج الحدود. هذه "المكانة" التي ارتدت إليها الطبقة السياسية اللبنانية، تفسّر مسلكها العام في الأزمة السياسية الراهنة. عناصر المكانة المنوّه عنها، يلخصها "الشخصي" ويعبر عنها "الطائفي والمذهبي"، ويجمّلها كشعار زائغ، الوطني، او العروبي، او التعايشي، او الاستقلالي... الخ الحقيقي في المتداول من قبل "الطبقة" هذه، ما آل إليها من مقاليد "الحصص الطائفية"، اما "المتخيل" لدى اصحاب هذه الحصص، فهو الدولة الراعية لميزان "القلق ? التوزيعي"، إذ لا يلغي الهاجس الطائفي الانتفاعي، هاجساً طائفياً آخر، من طينة الانتفاع عينها. قيل سابقاً في النظام اللبناني: "أنه نظام معوق"، بمعايير تطور رأسمالي محددة، وبآليات اجتماعية وسياسية معينة. لكن ذلك النظام "حرسته" في اضعف الإيمان الوطني، ذاكرة ميثاقية ما، كانت تستحضر لدى الأزمات العاصفة، وتتجسد عند الجلوس الى طاولات الحوار والحلول. مضمون الذاكرة اللبنانية يشمل شيئاً من الكيانية الأصلية وتاريخ تطورها، وشيئاً من المراحل الاستقلالية وعمليات اشتقاق توازناتها، وشيئاً من تقاطعات علاقات لبنان مع محيطه العربي ومع المجتمع الدولي... هذا المضمون المتنوع كان له اهله وساسته، الذين عبروا عنه، بوتيرة "امانة متفاوتة"، لكن الذاكرة العامة لم تكن لتخون هؤلاء الساسة، جوهرياً... حصل ذلك حتى في اوقات الانفجارات الكبرى، لذلك ظل شعار "لا غالب ولا مغلوب" مطلباً لبنانياً دائماً. من "اصطلح" على تسميتهم "رجال الاستقلال" اللبناني، هم صانعو الذاكرة وحراسها والناطقون باسمها. وأولئك هم الذين صمتوا تباعاً. بعضهم صمت حين اطاحت مدافع الحرب الأهلية ونيرانها بأصوات "الذاكرة الخافتة" وبعضهم الآخر كف عن الكلام موتاً ورحيلاً. في مكاني الصمت حلّ الوارثون من الأبناء، او من الأقارب، او من المستنسخين سياسياً. ذاكرة هؤلاء، إلا قلة قليلة، لا تتعدى رواية الأهل الشفوية عن "التاريخ الاستقلالي والكياني اللبناني"، ولا تتجاوز يوميات ومشاهدات الحرب الأهلية اللبنانية... اما مآثر الكثرة من "الاستقلاليين الجدد" فمقيمة داخل تلك "الذاكرة الملتهبة"، ومتحركة على وقع تداعياتها. غالبية الطبقة السياسية التي تحرك الوطن اليوم، من وضعيتي "الموالاة والمعارضة" هي من تلك الكثرة "الوارثة او الوافدة"، ومفاهيمها عن "الوطنية الجديدة" هي المفاهيم السائدة. ننحي هنا "التلقيح القومي" لهذه الوطنية، لئلا نفتح مجال الهروب التبريري امام "الطبقة السياسية"، فتحيل بشطارتها اللبنانية المعهودة، مسؤوليتها عن التقصير الى "ضرورات قومية، تبيح المحظورات الوطنية"، او تفسر إعاقتها وقصورها البنيويين، بثقل القيود المفروضة عليها من خارج "طبعها وطبائعها"!! ما هو الوطن الذي يمكن نسبته الى الطبقة السياسية الجديدة؟ ليس المقصود هناك الحدود الجغرافية، ونوع التوزيع السكاني، او وصف الطبيعة والمناخ!! بل المعنى ما القرار وما السياسة وما الآليات وما الرؤى التي تجعل كلها الوطن وطناً؟ الذي ساد لدى "الطبقة الحكومية"، تعريف الوطني مقروناً دائماً بتعريف، ما فوق وطني. مثل "المسار والمصير، والصراع القومي, والصمود الاستراتيجي"، او بتعريف "طبقة معترضة" حكومية هي الأخرى مقرون بما هو دون توافقي، يضمر انفكاكاً من معادلة توازن لبناني موروث، ودائماً بدعوى الحفاظ على هذا التوازن. تعريفان يعودان ليجدا مضمونهما الفعلي في "وطن" يفصّل على مقاس هيمنة طائفية، والتحاق طوائفيات اخرى، بها، من موقع "الغالب والمغلوب" هذه المرة وبما يخالف شعار "التعادل" السابق. ما الحكمة التي يمكن افتراضها لدى الطبقة السياسية إياها؟ بمعنى القدرة على التوصل الى تسوية طائفية اخرى تأخذ في الاعتبار معطى التبدل الإقليمي والدولي وواقع انسحاب الوجود العسكري السوري من لبنان، تبدو المعاندة غير الواقعية هي الغالبة في صفوف المستأثرين "الجدد" بالحكم، ويظهر النزق السياسي هو المتحكم بأفكار صف واسع من "الاعتراض" المتنوع المشارب. التمسك بإطالة عمر "توازن حاكم" منذ الطائف حتى اليوم، بات غير ممكن، بشهادة القوى والوقائع، والانقلاب الشامل على "التوازن" للإطاحة به وفرض توازن مناقض ومعاكس، يثبت يومياً انه مستحيل هو الآخر. تبدّل الخارج الراعي للوضع اللبناني، لا يسقط كل الداخل المحلي، بل يعيد الاعتبار الى طريقة تشكله وإلى آليات صراعه، وإلى الصائب من توازناته، وإلى معاني التسوية، حتى ولو امتنعت "طبقة المتصارعين" عن إدراكها، او عن القدرة على صوغ معادلاتها. لم تكن "شهية استيزار" محضة اذاً، تلك التي حكمت اداء "الطبقة السياسية"، وأدت الى تعثرها في تأليف الحكومة "الكرامية"، بل كانت موانع مواقع سياسية، وقراءات مستقبلية. في هذا المضمار تبادل المعنيون رسائل اطمئنان، غير كافية، لكنها تدل على الأساسي من التوجهات المستقبلية. قد يكون لدى فرقاء الشيعة السياسية، ما جعلهم مطمئنين الى ان "مروقهم العابر" سيكون موضع تجاوز، إذ تحتل "الطائفة" موقعها الطبيعي, وتلعب دورها العادي، من دون عوامل الشحن الإضافية التي رفدت الموقع والدور. وقد يكون لدى المارونية السياسية، ما يجعلها واثقة من عودتها الى استئناف دورة حياتها السياسية التي جرى تعطيلها، في الجزء الغالب منها، وقد يكون لدى الدرزية السياسية ايضاً ما يدفعها الى الثقة بأن دورها المستند دائماً الى قوى لبنانية اخرى يقع في باب الاجتهاد والممارسة الفعليين، وقد لا تكون السنية السياسية، خارج دوائر "التطمين" بأنها ستظل واسطة عقد كل ميثاق لبناني، على رغم النزف القيادي الضخم الذي تعرضت له... الخ. قد يكون كل ذلك ممكناً... لكن ما يجب رصده، هو ان استحضار لبنان "السياسة" تم بالتشطير، وأن الاتفاق العام، المشترك، الذي يراد له ان يكون قاعدة الاستقرار اللبناني، هو مجرد حاصل توافقات فيها الشيء وضده، وتشتمل على وجهة وعكسها. هذا فيما الغائب الأكبر هو الضمانات والحصانات الاجتماعية والوطنية الداخلية، التي تسيج وتحفظ ديمومة كل حصيلة سياسية، وتسمح بفتح الآفاق امام تطورها، أي امام رسوخها المستديم. يحصل ان تُناقش "الطبقة السياسية" في لحظة تشكيل حكومة، لكن النقاش سيظل مفتوحاً، لأن الطبقة السياسية إياها ستظل العامل الأساس في كل إقفال سياسي خطير والعقبة الأهم امام كل تجاوز لذاكرتها الهشة، ولنظامها الطائفي العقيم. * كاتب لبناني.