قبل أحداث أيلول سبتمبر كان الرأي السائد في العواصم الأوربية، فضلاً عن واشنطن، هو أن الديموقراطية تؤدي إلى وصول"الإسلاميين المتطرفين"إلى الحكم. ومع تنامي حركات العنف المتشح بالدين في منطقة الشرق الاوسط تحول هذا الرأي إلى إيمان راسخ، واقتنع مهندسو السياسية الغربية بأن الضغط على حكومات المنطقة باعتماد سياسات تتيح المشاركة الشعبية سيكون بمثابة دعم لجماعات وحركات عنيفة في عدائها للغرب، ومثلما جاءت الديموقراطية بالشيوعيين في أميركا اللاتينية خلال فترة الحرب الباردة، فإنها ستحمل الاسلاميين على كفوف الراحة الى سدة الحكم في العالم العربي. تعزز هذا الرأي بعد أحداث نيويورك، وشهدت الساحة الدولية تعاوناً بين مختلف الدول على محاربة التطرف الإسلامي. لكن اختلاط الحابل بالنابل في هذه الحرب، خلق ردة فعل شعبية مناهضة لهذه الحملة، ومتعاطفة مع التيار الإسلامي في البلاد العربية والاسلامية، خصوصاً عندما أدرجت الأجندة الأميركية على قائمة الإرهاب أحزاباً تنبذ العنف مثل حركة"الإخوان المسلمين"، وأخرى تمارس المقاومة المشروعة ضد الاحتلال مثل حركة المقاومة الإسلامية حماس و"الجهاد الإسلامي"و"حزب الله"، فضلاً عن ان بيانات وخطط هذه الحملة ومواقفها انطلقت بالتزامن مع غزو أفغانستان والعراق، وتلاقت"بصدفة"يقال انها مجرد صدفة"محضة"مع مصالح إسرائيل في تصفية أحزاب لاعلاقة لها بالإرهاب الذي أصاب أميركا. هذا الاتهام الجماعي بالإرهاب لكل ما هو أسلامي خلط الأوراق، وأضعف الموقف الأميركي وكشف الأطماع المرجوة منه، وأوجد حالاً من التردد في موقف العديد من دول العالم، فضلاً عن أن دولاً تعاني من الإرهاب وتتصدى له بدوافع وطنية لحماية أمن مجتمعاتها ووحدتها السياسية بدأت تشعر بالحرج من تفسير موقفها بأنه مجرد استجابة للأجندة الأميركية، وزاد الموقف تعقيداً حينما شرعت واشنطن بتنفيذ مشروعها لنشر"الديموقراطية"في الشرق الأوسط. فهذا المشروع مارس تناقضاً صارخاً بمنع الإسلاميين وحرمانهم من المشاركة لمجرد أنهم كذلك فزاد من نقمتهم على السياسية الاميركية، واستهدف استقرار دول تخوض معارك ضارية ضد الارهاب، ومارس عليها ضغوطاً سياسية اربكت تعاطيها مع ظاهرة العنف، وخلف فيها اجواء سياسية تخلط بين الإرهاب والنضال السياسي، واوجد جماعات تريد التغيير بأي ثمن، حتى لوكان الثمن هو الاحتلال، فتحول ما يسمى بالمشروع الأميركي، بشقيه"محاربة الارهاب"و"نشر الديموقراطية"، الى"فتنة سياسية"ولم يعد احد يدري على وجه اليقين ماذا تريد واشنطن، هل تريد فعلاً قلع الإرهاب من المنطقة، ام تسعى الى تحريضه واستثماره من خلال التدخل في شؤون الدول واستفزاز مجتمعاتها باسم الديموقراطية. وسط هذا الغموض، وان شئت العبث، السياسي استدركت واشنطن رفضها السابق للإسلاميين، وبدأت الحديث عن ضرورة بدء حوار مع الأحزاب والتيارات الإسلامية باعتبارها قوة فاعلة على الساحة السياسية العربية ولا يمكن تجاهلها، وانتقلت هذه الفكرة الى دول الاتحاد الاوربي التي ناقش وزراء خارجيتها في اجتماعهم الاخير وثيقة تحث دول الاتحاد على بحث فكرة الحوار مع الجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط، وعدم قصر التعاون في تنفيذ الديموقراطية على الطبقة العلمانية المثقفة في المجتمع المدني بالدول العربية على حساب منظمات إسلامية أكثر تمثيلاً وشعبية في الشارع العربي. ترى من هي الجماعات الإسلامية الديموقراطية في نظر واشنطن وحلفائها الغربيين؟ وكيف يمكن قبول هذه التسمية الجديدة والتحول المثير في ظل الاتهام الجماعي للإسلاميين بأنهم اقصائيون ومتطرفون وداعمون للإرهاب ولإذكاء الكراهية للغرب؟ ثم هل من الممكن ان تجد السياسية الاميركية والاوروبية ارضية مشتركة للحوار مع التيارات والأحزاب الإسلامية في ظل التناقض الحاد والجوهري بين الطرفين حول مسائل عديدة ابسطها دور المرأة في المجتمع وحقوقها السياسية، وكيف أصبح النشطاء الإسلاميون معتدلين فجأة في نظر السياسيين الغربيين ويمكن الحوار معهم، وهل يمكن للتيارات الإسلامية في الدول العربية أن تقبل بعلمانية الدولة كمدخل لهذا الحوار؟ وعلى افتراض انها قبلت هل يمكن أن تستمر هي الأكثر تمثيلاً وشعبية في الساحة السياسية؟ أو هل يمكن وصفها بعد ذلك ب"الاسلامية"؟ وأخيراً هل الهدف من هذا الحوار تحقيق النموذج التركي، أي اسلام بلا دولة اسلامية، إسلام تعبد وهوية، اسلام يحق له الجلوس ولكن مع المتفرجين وفي الصفوف الاخيرة من القاعة، ام أن الهدف من حوار الغفلة هذا هو الوصول الى التركيبة العراقية: دولة تقوم على محاصصة طائفية صارخة ودستور علماني ملفق؟ بمعنى صنع ديموقراطية من دون آليات لتنفيذها... ديموقراطية بلا ديموقراطيين... ديموقراطية مغشوشة؟