تيه المثقف العربي هذه الأيام لا حدود له، فهو تارة يدعم حفلة الدم وأشلاء العراقيين اليومية والسيارات المفخخة في العراق الذبيح تحت عناوين مقاومة الاحتلال، وهو مرة يحذر من فكرة احتواء أي إسلام سياسي ضمن شروط الديمقراطية والمشاركة السياسية في المنطقة.. أي خيط يجمع بين تناقضات هؤلاء إذا لم يكن الترويج لديمومة الاستبداد في هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها المنطقة العربية يبدو أن تيه المثقف العربي سيطول مداه، لقد كشفت المعركة الدولية مع الإرهاب، والحالة العراقية على وجه خاص، وتلك العمليات التي طالت نيويورك ومدريد ولندن والرياض واسطنبول والدار البيضاء وسواها.. وهذا الشلال اليومي من الدماء في العراق.. ألا حدود لهذا التيه، ولا قراءة قادرة على الأخذ بيد الإنسان العربي أو المسلم إلى عصر أنوار جديد. ثم خلط كبير للاوراق هذه الأيام، وثمة استدعاء مركز على مفاهيم مواجهة لا مفاهيم اكتشاف، وثمة نزعة سهلة ليقرر مثقف مسترخ ألا حل إلا بالمواجهة الدائمة، وهذه المواجهة الدائمة لا فرق أن تكون بين جماعات أبو مصعب الزرقاوي أو حتى مواجهة أي فكر إسلامي معتدل، ثمة تقرير مخيف أن الإسلام السياسي ليس له من وجه سوى العنف والإرهاب والتطرف والاستبداد.. وعلى الحكومات التي تركت الفرصة لهذه التيارات الإسلامية السياسية - فيما سبق - أن تواجه اليوم شبح الإرهاب، من خلال استهداف أي مشروع إسلامي حتى لو كان يبرأ من التطرف أو العنف أو الإرهاب ويحلم أن يعمل في رابعة النهار.. ثمة ثقة مفقودة بأي وجه برنامج إسلامي فقط لأن التطرف اليوم والعنف والإرهاب تحمل هذه الهوية المزورة أو المتلبسة على أقل تقدير. تأملوا خطاب المثقف العربي القومي اليوم، إنه لا يعدو أن يكون مجهوداً مركزاً لإضفاء مشروعية على مقاومة عراقية بلا مشروع تلتبس بها ومعها كل عناوين الإرهاب والتطرف والقتل على الهوية الطائفية، وكل هذا بحجة مقاومة مشروع احتلال.. كل مشاهد هذه الاشلاء اليومية والبقايا الآدمية، ليس لها تأثير في ضمير المثقف العربي القومي الذي يطل من فضائيات المجهود الإعلامي المتحالف مع ضرب مشروع مختلف في العراق. أي تأثير لها في نزعته الإنسانية - إن وجدت - وهو لا يراها سوى الضريبة التي لا تستحق التوقف أو التراجع أو معاودة اكتشاف بقايا ملامح الصورة الدموية في عراق اليوم المستهدف، ما دام هذا يساهم في دحر مشروع مختلف ولا سواه. لا يرى هذا المثقف في عراق اليوم، سوى الاحتلال الأمريكي البغيض، لا يرى مشروع اقتراع حر لثمانية ملايين عراقي، ولا يرى حكومة منتخبة من جزء كبير من الشعب العراقي ساهم في عملية انتخابية متحدياً السيارات المفخخة والأجساد المخففة.. لا يرى أن ثمة إمكانية لدستور أكثر تقدماً، وحكومات ترحل بورقة اقتراع، والأهم من كل هذا أن ثمة إمكانية لولادة مشروع دولة جديدة مختلفة، تواجه تحديات كبرى، وترث مجتمعاً مقسماً وطائفياً وعشيرياً واثنياً.. ترث عراقاً قابل للتفجر، منهكاً، جائعاً، معزولاً.. لا يرى هذا المثقف سوى ملامح احتلال عسكري، كان يمكن مقاومة وجوده بوسائل أكثر جدوى وأكثر تقديراً لحياة الإنسان العراقي، لا يتذكر هذا المثقف رحلة العذابات الطويلة مع احتلال محلي أحكم القبضة على أنفاس العراق والعراقيين طيلة عقود لتختصر الدولة في شخص القائد الذي بيده وحده قرار الحرب وقرار الغزو وقرار النفي وقطع الآذان والألسن.. نظام القائد الضرورة، الذي يقود شعبه إلى حتفه، مثقف لا يريد أن يرى أن كل ما يحدث اليوم في العراق لم يكن وليد مفاجأة الغزو أو الاحتلال الأمريكي.. إنه ثمرة طبيعية لعقود من التوقف والقمع والحصار والظلم.. كان الانبعاث الطبيعي لكل محن الشعب العراقي ما إن ترفع يد الجلاد. افهم إلى حد كبير خلفية هذا المثقف القومي ونزعته، فهو أسير مرحلة، لكن في ذات الوقت لا أصدق أن تلك الحشود من المثقفين والكُتَّاب في الوطن العربي التي تقاتل على جبهة رفض المشروع العراقي، هم فقط أمناء لمشروع قومي لم يعد له وجود.. ولم يكن لها ملامح المشروع على أرض الواقع - لا على مستوى التنظير - سوى البؤس والتراجع والتوقف والاضطهاد الكبير. إن ثمة مشروعاً مدفوع الثمن للمقاومة الإعلامية على صعيد جر الجماهير العربية المغيبة للاصطفاف ضد مشروع دولة مختلفة.. الوجه المعتم للاحتلال الأمريكي، والقرار اليميني في واشنطن المتناغم مع المشروع الإسرائيلي، لا يبرر خلط الأوراق إلى حد التحالف مع مشروع دموي متطرف في عراق اليوم. لكن تيه المثقف العربي لا يقف عند هذا الحد، فهناك من لا يزال يدعم الاستبداد بطرق مختلفة، بوعي أو بدون وعي. ينكشف المثقف القومي عندما لا يرى في مشروع العراق الجديد سوى وجه العمالة ولون الطائفية والارتهان للاستعمار الجديد، دون أن يجيب على أكثر الأسئلة حرجاً، ألا وهو السؤال الذي يترتب عليه تقرير مستقبل عراق يعيش كل هذه التناقضات دون أن تكون ثمة صيغة توفيقية تحاول أن تضع بلداً مدمراً على طريق التعددية والدستور الدائم وشكل الدولة الفيدرالية. فلا صوت لديه فوق صوت المقاومة، وهو يدرك انها مقاومة بلا مشروع، وقلما اتفق مع أجندتها التي تتوسل وجه المقاومة بلا مشروعها.. وقد يدرك أو لا يدرك أن ما يحدث في العراق ليس مجرد مقاومة داخلية من أجل تقرير مستقبل شريحة من العراقيين أصبحوا خارج اللعبة السياسية بارادتهم.. وانها أيضاً حرب مركزة تستهدف مشروع دولة مختلفة في المنطقة. ينكشف حتماً هذا المثقف عندما يواجه بأسئلة قلما تُطرح حول مستقبل وطن مثل العراق في ظل الترويج لمشروع مقاومة انتحارية لا تحمل أجندة سياسية قابلة للحياة، لكن ماذا نقول عن مثقفين كثر ما زالوا يرون أي مشروع ديمقراطي هو مفاقمة للأزمة وليس حلاً لها. كثيرون يروجون لمقولة إن تيارات الإسلام السياسي، لا تخلوا من نسخة زرقاوية مخبأة في أرديتها، وإنها وإن شاركت في أي مشروع يحمل ملامح الديمقراطية، فهي تتحين فرص الانقضاض على السلطة، ومن هذا المنظور يكون الحل بالسماح لأي أحزاب إسلامية بالمشاركة في العمل السياسي، هو كارثة محتمة، وأن كل الدعوات الغربية التي تحض على تبني إسلام سياسي معتدل يعمل ضمن مشروع المشاركة السياسية لا تعني سوى أن هذا الغرب لا يدرك أي خطأ فادح يرتكبه باستمراره في هذه الدعوات.. وأن انخراط هذه الجماعات أو الأحزاب في اللعبة السياسية هو إعادة إنتاج لأنظمة راديكالية أكثر غلواً وتطرفاً سيتضرر الغرب منها أكثر من سواه، وستنقلب على مبادئ الديمقراطية بمجرد وصولها إلى السلطة، وأن الديمقراطية وسيلة تستخدمها سلماً للوصول لأنها لا تؤمن بها أصلاً. يعتمد هذا الخطاب على استدعاء شواهد ومقولات ونصوص من أدبيات تلك الجماعات، لكنه أيضاً لا يلتفت أيضاً إلى تحولات في خطاب تلك الجماعات، وربما عد أي تحول من هذا النوع هومجرد انتهازية وتضليل وتقية جديدة.. وأزمة هذا الخطاب أنه مجرد استعداء على الإسلام السياسي دون اكتشاف أن ثمة فرصة حقيقية لاحتوائه ضمن شروط دولة لها نظام وقانون وبرنامج.. خطاب الاستعداء هذا، يكشف فشله من ناحتين، أولهما أنه لا يرى سوى الجانب الذي يريد رؤيته في مشروعات الإسلام السياسي ويكاد يكون متوقفاً عند أدبيات السلفية الجهادية التي ترفض الديمقراطية جملة وتفصيلاً، لكنه بهذا يؤذي أي إمكانية لاحتواء إسلام سياسي قابل للتطور.. ماذا يمكن أن يقال عن تجربة تركيا على سبيل المثال؟، هي لن تكون حتماً تعبيراً عن إسلام سياسي راديكالي، لكنها في أفضل الأحوال نموذج لاحتواء إسلام سياسي - اجتماعي قابل للحياة والتطوير واستطاع أن يتعايش مع أعتى حراس العلمانية الاتاتوركية، واستطاع أن يحقق منجزات على أرض الواقع لا مجرد شعارات للاستهلاك.. ماذا يمكن أن يقول أنصار هذا التوجه وهم يراقبون المشهد الإيراني؟، هل يملك أحد منهم أن يقول أن لا ديمقراطية في إيران، وأن صندوق الاقتراع هو مجرد واجهة لتمكين إسلام سياسي راديكالي من سدة السلطة؟. الغريب أن العالم عرف أن نجاح الرئيس الإيراني المنتخب احمدي نجاد هو ثمرة عمل كبير في بلديات ادربيل وطهران، يراه بعض هؤلاء أنه دليلٌ على فشل تجربة إيران الديمقراطية لأن إسلامييها ما زالوا يسيطرون على صناعة القرار ومؤسسات الدولة. مشكلة هؤلاء أنهم لا يرون أن مجتمعات المنطقة قادرة على الاختيار والاختبار، وأنها ما زالت بحاجة لوصايتهم حتى امد غير منظور، وأنه لا معنى للديمقراطية في منطقة معتمة، وأنه لا مجال لفهم أن ثمة إمكانية كبيرة لاحتواء العمل السياسي بكل أطيافه من خلال نظام قوي قادر على بلورة صيغة مشاركة لا صيغة نفي وإلغاء دائمة. مشكلة هذا الطرح أنه يعمق الحاجة للاستبداد بحجة أنه اخف الضررين.. ومشكلته الأكبر أنه لا يقدم مشروعاً قابلاً للحياة. فكل ما يحسنه هو تلمس الثقوب لا محاولة معالجة الخلل من خلال طرح رؤية إنسانية متقدمة تعالج الخلل المزمن في علاقة السلطة بالشعوب في منطقة تعاني من ضغوط خارجية وداخلية وأزمات تنموية وتحديات لا تقبل التأجيل وهي أيضاً - وهذا المهم - تنتمي لثقافة إسلامية علينا الاعتراف انها الأكثر تأثيراً في الشارع العربي اليوم. الذين يدعمون تعطيل أي مشروع مشاركة بحجة التخويف من الإسلام السياسي من أن يصل لأبواب السلطة، هم يتجاهلون بوعي أو بدونه، أنهم بهذا يتجاوزون مفهوم الدولة القوية القادرة على ضبط الممارسة السياسية ضمن شروط مصلحة الدولة والمجتمع.. الأمر الآخر أن الخطر الأكبر اليوم هو ترك الساحة للإسلام السياسي يعمل في الخفاء وتحت الأرض.. وهنا لن نسلم من إسلام سياسي متطرف، مشروعه هو التقويض والهدم.. وهو قادر على حشد التعاطف معه والتأليب على أي نظام عبر قنطرة يساهم في بنائها أمثال هؤلاء الذين يشجعون على استئصال شأفه أي إسلام سياسي سواء كان معتدلاً أم متطرفاً. وإذا كان هذا الحديث منصباً على الشق السياسي في المعركة مع التطرف والإرهاب من أجل احتواء إسلام معتدل، فهو حتماً لا يغفل أو يتجاهل الشق الفكري الأكثر أهمية. تيه المثقف العربي هذه الأيام لا حدود له، فهو تارة يدعم حفلة الدم وأشلاء العراقيين اليومية والسيارات المفخخة في العراق الذبيح تحت عناوين مقاومة الاحتلال، وهو مرة يحذر من فكرة احتواء أي إسلام سياسي ضمن شروط الديمقراطية والمشاركة السياسية في المنطقة.. أي خيط يجمع بين تناقضات هؤلاء إذا لم يكن الترويج لديمومة الاستبداد.